الأسرة مرصد للمجتمعات في زمن الحرب: عمليات إعادة الهيكلة وقطع العلاقات والحماية
يشكّل هذا المقال مقدمة العدد ٦ لمجلة المجتمع المدني، والذي تمّ تحريره من قبل فالنتينا نابوليتانو.
تجدد العنف واستمراريته في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يجعل من الحرب تجربةً عادية أو تافهة. فما زالت سببًا لانقطاعاتٍ رئيسية في حياة الأفراد والأُسر، مع ما تحمله معها من تجارب الوفاة والاختفاء والانفصال، وكذلك على مستوى الجماعة نتيجة انهيار شبكات الدعم والتشدد في الانتماءات السياسية والعرقية والطائفية.
في هذا السياق الخاص، يسعى هذا العدد الموضوعي إلى استكشاف كيف رسمت هذه الحروب المتعددة، وما زالت، معالم مجتمعات الشرق الأوسط، مع تركيزٍ خاص على المجال الأُسري باعتباره مرصدًا للمجتمعات في زمن الحرب.
To cite this paper: Valentina Napolitano,"الأسرة مرصد للمجتمعات في زمن الحرب: عمليات إعادة الهيكلة وقطع العلاقات والحماية", Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, 2023-12-01 00:00:00. doi:
[ONLINE]: https://civilsociety-centre.org/ar/paper/الأسرة-مرصد-للمجتمعات-في-زمن-الحرب-عمليات-إعادة-الهيكلة-وقطع-العلاقات-والحمايةلطالما شكلت الحرب تجربة شبه دائمة تعيشها شعوب الشرق الأوسط منذ أن تأسست الدول المعاصرة في المنطقة. تسببت "النكبة"، أو إقامة دولة إسرائيل على أراضي فلسطين التاريخية في عام 1948، بنزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى دول الجوار أيضًا (أي الأردن ولبنان وسوريا بشكل أساسي)[1]. ومنذ ذلك الحين، باتَ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني جرحًا لا يلتئم في المنطقة، فيُعاوِد الظهور بين الحين والآخر ويعرّض الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكري لعنفٍ يومي. وعلاوةً على هذا الصراع الطويل الأمد، اندلعت في الشرق الأوسط حروب متعاقبة بلبلت دول المنطقة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر: الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، والحرب بين العراق وإيران (1980-1988)، والحرب بين العراق والكويت (1990-1991)، والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والصراعات التي تعصف بسوريا واليمن منذ عام 2011 جراء الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة.
غير أن تجدد العنف واستمراريته في هذه البقعة من العالم لا يجعل من الحرب تجربةً عادية أو تافهة. فما زالت سببًا لانقطاعاتٍ رئيسية في حياة الأفراد والأُسر، مع ما تحمله معها من تجارب الوفاة والاختفاء والانفصال، وكذلك على مستوى الجماعة نتيجة انهيار شبكات الدعم والتشدد في الانتماءات السياسية والعرقية والطائفية.
في هذا السياق الخاص، يسعى هذا العدد الموضوعي إلى استكشاف كيف رسمت هذه الحروب المتعددة، وما زالت، معالم مجتمعات الشرق الأوسط، مع تركيزٍ خاص على المجال الأُسري باعتباره مرصدًا للمجتمعات في زمن الحرب[2]. يجمع هذا العدد دراسات في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا تتناول لبنان واليمن والعراق وفلسطين وسوريا، ويساهم بدوره في تحديث الدراسات المتعلقة بالحرب من خلال اقتراح تحليل عمليات إعادة هيكلة الأسرة من منظور يسمح بفهم الاضطرابات الاجتماعية في زمن الحرب وربطها في إطارٍ متسلسل مع زمن السلم.
1.الأسرة كمرصد للمجتمعات في زمن الحرب: نهج طولي وعلائقي
منذ تسعينيات القرن الماضي، شهد حقل الدراسات المتعلقة بالحرب تحديثًا ملحوظًا. فأسفر تزايد الصراعات "المدنية" أو "الداخلية" في أعقاب الحرب الباردة (ريتشاردز 2004) عن تحوُّل التركيز من الدول والجهات الفاعلة المسلحة إلى منظور علم الاجتماع الجزئي الذي يتمحور بشكل متزايد حول أوجه إعادة الهيكلة الاجتماعية والمسارات الفردية (لوبكيمان 2008، كولوما بيك 2012، ديبوس 2013، باشكو وآخرون 2017، غاير 2018).
وفي هذا الإطار، سلطت دراسات متعددة الضوءَ على آثار الحروب على مختلف جوانب الحياة الأسرية. فالأعمال التي تناولت مسارات المقاتلين أظهرَت بصورة خاصّة الآثار التي قد يخلّفها حمل السلاح، أو نزعه، على العلاقات بين النوعَين الاجتماعيَين والأجيال. وفي حين تتولّى المرأة أدوارًا جديدة في المجال العام، قد تضطر بعد انتهاء القتال إلى العودة إلى الأدوار التقليدية بحسب المفهوم الجندري (بوترون 2012، بوكاي 2013، فيتيرنا 2013، تيبو 2014). أما بالنسبة إلى الرجل، فقد يؤدي نزع السلاح إلى خفض مرتبته ماديًا ورمزيًا، ما يفضي إلى العودة إلى القيم المحافظة على المستوى المنزلي (فيغ 2006) وظهور الذكورية العنيفة (مراجعة "ريتشارد" في هذا العدد). ويتحدى الشباب سلطة الأكبر سنًا أيضًا، ويُرسّخون مكانتهم في هياكل السلطة المحلية (ديبوس 2008)، ويسعون أحيانًا إلى إعادة فرض سلطة الآباء التي فُقدت في المجال الأُسري (مراجعة "ريتشارد" في هذا العدد).
من جهة أخرى، وفّر حقل دراسات الهجرة عددًا من سُبُل التفكير حول عمليات إعادة هيكلة الأسرة التي تترافق مع النزاعات العنيفة. وتُظهر هذه الأبحاث كيف تُعيد الحرب تنشيط شبكات الهجرة والعائلة الموجودة مسبقًا، وتُسهّل بالتالي وصول المهاجرين الجدد واستقرارهم وتأمين معيشتهم (مونسوتي 2004، لوبكيمان 2008، زونتز 2021). بالإضافة إلى ذلك، قد ينجم عن الهجرة وما يرتبط بها من تراجُع في المرتبة الاجتماعية آلياتٌ لحماية المجال الأسري. في حالة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، توضح ستيفاني لاتيه عبد الله على وجه الخصوص أنَّ الحفاظ على "شرف" المرأة يصبح قضية مركزية لحماية سمعة الأسرة بأكملها، مع إخفاء إخفاقات الرجال العاجزين عن التصدي لنزع ملكية أراضيهم وتشريدهم (2005). وتعددت أوجه إعادة تشكيل الذكورة والأنوثة التي نتجت من سياسات الاستقبال وفرضت وصمةً اجتماعية على الرجال بالإجمال، وعاملت النساء كمستفيدات رئيسيات من المساعدات الإنسانية أو أعاقت الوصول إلى سوق العمل والقدرة على التنقل، وجرى توثيقها على نطاق واسع، لا سيما في سياق الهجرة الناجمة عن الصراع السوري الحالي (نابوليتانو، سيصدر قريبًا؛ سانتانا دي أندرادي 2022؛ شانيك 2021؛ تيرنر 2020؛ سويرباوم 2018؛ فريدمان وآخرون 2017).
إنَّ النهج الطولي في مقاربة الحرب والهجرة، الذي تعتمده هذه الدراسات، يسمح بتحديد الإطارَين التاريخي والاجتماعي لهذه الأحداث التي تُعتبر غالبًا "لحظات صفر"، لا سيما في خطابات الجهات الفاعلة في المجال الإنساني التي لا تهتم كثيرًا بمسارات المستفيدين من المساعدات وخصائصهم الاجتماعية السابقة. وتشدد حاليًا دراسات كثيرة على أهمية فهم التحولات الاجتماعية الجذرية الناجمة عن النزاعات والتهجير القسري على مدى فترة زمنية طويلة من أجل ربط آثارها بزمن السلم (ريتشاردز 2005، ديبوس 2013، لينهارد ومورو دو بيلان 2013)، من دون التقليل بأي حال من الأحوال من أهمية الحرب التي تبقى تجربةً قاسية على الصعيدَيْن الشخصي والجماعي (غاير 2018).
تندرج دراسات متعددة في هذا الإصدار ضمن هذا المنظور الطولي، ويسمح ذلك في حالة قطاع غزة بالربط بين فترات عنيفة كثيرة، والتحولات الاجتماعية-الاقتصادية التي ترتّبت عنها، ولا سيما فقدان الرجال لعملهم في أعقاب إغلاق الحدود مع إسرائيل، وأشكال تكيُّف الأسر نتيجة ذلك، على غرار سكن أفراد العائلة الممتدة تحت سقف واحد (مراجعة "قليبو" في هذا العدد). في الحالة اليمنية، يكشف هذا النهج كيف حوّلت الحرب هجرة اليد العاملة إلى جيبوتي إلى هجرةٍ أُسَرية خلّفت تداعيات مهمة على دور المرأة، إذ اضطرت إلى تولي دور الأم والزوجة من دون مساعدة الشبكة العائلية، وأيضًا من دون تحكم هذه الأخيرة بها (مراجعة "بيرنو" في هذا العدد).
يقترح هذا العدد الموضوعي دراسة فريدة تجمع بين علم اجتماع الأسرة والصراعات والهجرة، وتقوم على فرضية رئيسية مفادها أن الأسرة هي وحدة تحليل تتيح الربط بين حقبتَي ما قبل الحرب وما بعدها. وفي ظل انهيار النقاط المرجعية الاجتماعية والسياسية، تُحافظ التفاعلات بين مختلف عناصر المجال الأسري على نموذج من المعايير وعلاقات القوة والديناميات الاجتماعية المعمول بها في المجال الاجتماعي قبل بداية الحرب. وفي الوقت نفسه، لا تشكل الأسرة وحدة ثابتة لا تتغيّر، بل تعكس أيضًا التغيرات الاجتماعية السريعة أحيانًا التي تحصل أثناء النزاعات. ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى منظور علائقي وغير جوهري حيال "الأسرة العربية"، علمًا أن الدراسات الواردة في هذا العدد تندرج في إطاره.
2. نهج علائقي تجاه الأسرة لتجاوز وجهات النظر الجوهرية إزاء "الأسرة العربية"
تتعدد أوجه الحياة الأسرية أو جوانبها التي يتطرق إليها هذا العدد. فهو يتناول تحديدًا ديناميات تكوين الرابط الأُسري أو تفكيكه عن طريق الزواج/الطلاق (مراجعة "تامينيان" في هذا العدد)، والعلاقات بين الجنسَين والأجيال داخل النواة الأُسرية (مراجعة "ريتشارد" في هذا العدد)، وأيضًا بين هؤلاء والعائلة الممتدة التي تشكل غالبًا مصدرًا للحماية، لا سيما في السياقات التي تتصف بعدم الاستقرار الاقتصادي (مراجعة "قليبو" في هذا العدد). ويبحث أيضًا في العلاقات الاجتماعية التي تتجاوز علاقات المصاهرة والقرابة، على غرار أوجه التضامن بين النساء في سياق المنظمات النسائية في سوريا (مراجعة "نابوليتانو" في هذا العدد)، والتآزر بين المهاجرات اليمنيات في جيبوتي اللواتي يساعدن بعضهن بعضًا في تعليم أولادهن، علمًا أن العائلة الممتدة كانت تتولى سابقًا هذه المهمة (مراجعة "بيرنو" في هذا العدد).
على هذا النحو، يستعرض هذا العدد مجموعة متنوعة من التصورات الحالية بشأن الأسرة في الشرق الأوسط. ويتبلور بالفعل هذا التنوع بتعدد المصطلحات المستخدمة للإشارة إلى الأسرة باللغة العربية، وتحديدًا "الأسرة" و"العائلة" للدلالة على الأسرة النووية، و"الأهل" للإشارة إلى العائلة الممتدة، و"الأقارب" أي مَنْ تجمعهم صِلاتُ القربة، و"القبيلة" و"العشيرة" للإشارة إلى الانتماء القَبَلي والنَسَب. وفي حين تشكل الأسرة "أقوى تعبير اجتماعي في العالم العربي بأكمله"، على حد تعبير سعاد جوزيف (2012، ص. 1)، فهي واقع اجتماعي متنوع يعيد صياغة نفسه وفقًا للسياقات. وانطلاقًا من تعدد معاني الرابط الأسري، يندرج هذا العدد ضمن الدراسات حول "القرابة العملية" كـ "روابط الدم والمصاهرة والحياة اليومية" كما تصورتها "فلورنس ويبر". لا يضع هذا المفهوم الروابط البيولوجية في إطارها القانوني فحسب، بل في إطار الممارسات اليومية التي تبني وفق "فلورنس ويبر" هيكل رابط القرابة أيضًا. لا يُضفي هذا النهج طابعًا جوهريًا على الأسرة في مجتمعات الشرق الأوسط حيث تُصوَّر غالبًا كحقيقة ثابتة وأبوية ومُحافِظة، وهنا تكمن أهميته. وكما تذكر "فرانسيس هاسو"، عن حق، في خاتمة هذا العدد، الأسرة هي "موقع للتكاثر المغاير ولاستخراج الموارد ومراكمتها" ويجب تحليلها من حيث تركيباتها التاريخية المحددة وكمكان لعلاقات القوة والهيمنة المتعددة. وعلى غرار "سعاد جوزيف"، من المهم بنظر "فرانسيس هاسو" اعتماد مقاربة متعددة الجوانب لفهم كيف تشكل المتغيرات المعقدة، التي تشمل النوع الاجتماعي والطبقة الاجتماعية والعرق والإثنية والجنس والثقافة والسلطة، المجالَ الأسري وكيف يشكّل المجال الأسري هذه الديناميات بدوره (جوزيف 2018، ص. 4). يتماشى هذا النهج أيضًا مع المطالب التي ترد في هذا العدد من خلال شهادات نساء سوريات ينتمين إلى المنظمة النسوية "النساء الآن من أجل التنمية" التي أُنشئت في سياق الصراع السوري الحالي والتي تدعو إلى اعتماد نهج شامل ومتعدد الجوانب لفهم وضع المرأة في علاقات الهيمنة المتداخلة في المجتمع السوري (مراجعة "نابوليتانو" في هذا العدد).
تركز الدراسات التي يجمعها هذا العدد بشكل خاص على العلاقة بين هذه الديناميات المختلفة وتكشف عن مسارَين بحثيَين رئيسيَين. يقوم الأول على تداخل المجالَين الخاص والعام والذي يبلغ ذروته في سياق الحرب، ويسلط الثاني الضوء على انتهاج أوجه التكيف، لا سيما من خلال إعادة النظر في أدوار الجنسَين والأجيال المختلفة في كنف الأسرة. قد يؤدي سياق الحرب إلى قطع العلاقات بين الزوجَين، أو بين الزوجة وحماتها، لا بل بين الأب والابن، الأمر الذي من الصعب تصوره في زمن السلم. وفي ظل هذه الظروف التي يسودها عدم الاستقرار وفقدان المراجع، يمكن في الوقت عينه ملاحظة أوجه إعادة توزيع الأدوار من دون إعادة نظر جذرية في التوازنات السابقة.
3. تزايد التداخل بين الحياة الخاصة والتطورات في المجال العام
يُظهر هذا العدد أن الحد الفاصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة، المبهم أصلًا في الأوقات العادية، يزداد إبهامًا في سياقات الحروب، ولا سيما الحروب الأهلية، إذ يتواجه فيها أبناء البلد الواحد وتزيد من تشدد الانتماءات السياسية والدينية والعرقية، وتنقل جبهة القتال إلى أقرب نقطة من مجالات الحياة اليومية (كولوما بيك 2012). وفي هذا السياق، ترسم السياسة معالم الحياة الأسرية على مستويات متعددة، ولا سيما تدخُّل الدولة وأطراف النزاع في التشريعات التي ترعى الأسرة. على سبيل المثال، تسلط "زهراء علي" الضوء في أبحاثها عن العراق على دور الانقسامات السياسية والمذهبية الناجمة عن الحروب المتعاقبة منذ ثمانينيات القرن الماضي في زعزعة المعايير القانونية التي ترعى قانون الأحوال الشخصية وفقًا للمذهب الديني (علي 2018). ويشكّل الزواج في هذا الصدد خير دليل على تغيّر المعايير القانونية، وتقلُّب الحدود والانتماءات الاجتماعية أيضًا، كما تثبته دراسة "لوسين تامينيان" حول العراق في هذا العدد. وتفيد الكاتبة أن الزواج بات مسيّسًا. يُظهر تعميم الزواج المتجانس طائفيًا الولاء الطائفي ويؤدي في المقابل إلى ارتفاع معدل الطلاق في صفوف المتزوجين من مذاهب مختلفة. وتشير الكاتبة أيضًا إلى أن الأعراف القبلية المتعلقة بالزواج وحل النزاعات الأسرية تترسّخ في ظل ضعف سيطرة الدولة. وتكشف أعمال أخرى حول السياق الفلسطيني جانبًا مختلفًا من تسييس الزواج يتمثل بظهور زواج يتجاوز الشروخ الاجتماعية والدينية، ليتبع الانتماءات السياسية (أبو نحلة، جونسون ومورز 2009).
تشمل أشكال التدخل السياسي في المجال الأسري إدراج الأسرة في استراتيجيات قتالية فعلية في الصراع، فتصبح الأسرة جهةً فاعلة في الحرب وليس مجرد مكان آمن للانسحاب واللجوء إليه. وفي الأراضي الفلسطينية، استُخدمت خصوبة المرأة الفلسطينية في انتفاضة عام 1987 كوسيلة لمحاربة الاحتلال الإسرائيلي (كرباج 1997). ومن ناحية أخرى، تُظهر "سعاد جوزيف" أن الأسر فقدت على ما يبدو في الحرب اللبنانية السيطرة على أبنائها بسبب النفوذ الذي مارسته عليهم الأحزاب السياسية والميليشيات. وفي موازاة ذلك، يبقى المجال الأسري مكانًا أساسيًا للتجنيد بالنسبة إلى أطراف النزاع (جوزيف 2004).
أخيرًا، يتجلى التداخل بين المجالَين الخاص والعام في استثمار الأسرة خطابيًا من جانب مختلف الجهات الفاعلة في الصراع وأيضًا من جانب الذين ينتجون ذكرى الأحداث. في هذا العدد، يحدد "ثوماس ريتشارد" في مساهمته المستنِدة إلى تحليل مجموعة من الأفلام، كيف ظهرت علاقةٌ بين ديناميات الأسرة ومصير الأمة بأكملها خلال الصراع اللبناني. فباتت الأسرة رمزًا مصغّرًا لقطع العلاقات والتحولات التي يشهدها المجتمع اللبناني بأسره.
4. إعادة هيكلة العلاقات بين الجنسَيْن والأجيال: بين قطع العلاقات والحماية
ينطوي مسار التفكير الثاني الذي يشمل إجمالي الدراسات في هذا العدد على أوجه إعادة تشكيل أدوار السن والنوع الاجتماعي. سلطت دراسات متعددة الضوء على تطور "العقد بين الأجيال '' (روث 2010) في زمن النزاع، مع تحدي الشباب المسلح لسلطة الأكبر سنًا وترسيخ مكانتهم في هياكل السلطة المحلية (فلاسينروت ورايميكرز 2004، شبلي 2019). ويوضح "ثوماس ريتشارد" في الحالة اللبنانية أن فقدان سلطة الأب يتمثل بوفاته، وأن الأشقاء البالغين يعيدون فرض النظام من خلال التحكم الصارم بالمشهد الأُسري، على غرار الدور الذي يلعبه الميليشياويون في المجال العام. ويثبت الكاتب أيضًا أن الحرب تتسبب بضياع المرجعيات للأولاد وتمنحهم حرية غير مسبوقة. وتُظهِر دراسة "مورغان بيرنو" كيف زعزعت الهجرة في جيبوتي منطق المساعدة المتبادلة وأيضًا منطق الهيمنة بين الأجيال. أدّت الهجرة إلى تحرير الزوجات الشابات من قبضة حمواتهن، ولكنها تحرمهن أيضًا من مساعدة أقاربهن، وتولّد أيضًا بالتوازي شكلًا من أشكال التضامن بين النساء من العمر نفسه اللواتي تجمع بينهن ظروف العزلة والمنفى. وتقع قضية النوع الاجتماعي أيضًا في صميم هذا العدد الذي يتناوله من منظور علائقي مع التركيز في آنٍ واحد على أوجه الأنوثة والذكورة الجديدة. ففي حين تنتشر في لبنان تصوّرات ذكورية جديدة للرجل العنيف والمفرط الرجولة لموازنة حالة الفوضى السائدة في البلد، تبرز المرأة كمسؤولة عن أسرتها ويجب عليها أن تتحلى بالصبر وقوة التحمّل. وتبرز أيضًا هذه المسألة في سياق الهجرة لدى النساء اليمنيات اللواتي يؤكدن تمسكهن بتقاليد بلدهن الأمّ من خلال إظهار شرفهن وسمعتهن الحسنة. ومن جهة أخرى، تُبيِّن دراسة "مورغان بيرنو" أن الهجرة نادرًا ما تؤدي إلى اكتساب الرجل أدوارًا جديدة، بل تدفع نحو إعادة توزيع المهام والمسؤوليات المنزلية بين النساء، ليس داخل الأسرة وإنما ضمن شبكات التضامن والجوار. كذلك، تكتسب المرأة أدوارًا غير مسبوقة، كما يتضح من الشهادات التي جمعتها "إيلينا قليبو" في ظل الحصار في غزة، حيث أصبحت المرأة ركيزةً في استراتيجيات كسب سُبل العيش التي تنتهجها الأسرة، من خلال العمل مع المنظمات الدولية أو الاقتراض من التجار. تبرز إذًا طرق جديدة لتحقيق الدخل ضمن العلاقات داخل الأسر.
كشفت الحرب بوضوح عن الظلم المرتبط بالنوع الاجتماعي في السياق السوري وشكّلت لحظة وعي، إذ اقتصرت "نسوية الدولة" التي نادى بها حزب البعث الحاكم بهدف تقديم نفسه كحزب تقدمي، على نخبة مقرّبة من السلطة ولا تمتّ إلى واقع المرأة السورية اليومي بصِلة. ومنذ اندلاع الثورة ضد النظام في عام 2011، تحركت النساء في مجالات متعددة للمطالبة بحقوقهن، تمامًا كما فعلت منظمة "النساء الآن من أجل التنمية" (العبدة وضاهر، سيصدر قريبًا). لا تهدف هذه المنظمة إلى إعطاء صوت للمرأة التي ما زالت غائبة عن الساحة السياسية فحسب، بل تسعى أيضًا على المدى الطويل إلى تعديل آليات الهيمنة التي ترسم معالم حياتها اليومية. تتبنى المنظمة وجهة نظر غير سُلطويّة للنضالات النسوية، وترى تحرير المرأة كعملية يجب أن تستهدف جوانب الحياة كافة، إنما من دون الإخلال جذريًا بالتوازنات القائمة. من الضروري غالبًا الحفاظ على آليات التضامن والحماية، حتى لو شكلت مصادر للتبعية. يُعد المجال الأُسري من مصادر الحماية النادرة في الشرق الأوسط حيث تفشل مصادر الحماية الاجتماعية الأخرى (جوزيف ص. 3). وينطبق هذا الواقع بصورة خاصة على سياق الحرب، إذ تجسد الأسرة حقيقةً من الحقائق النادرة في ظل اختفاء المراجع الاجتماعية الأخرى وتوفّر مساحةً لتغيير العلاقات الاجتماعية وإعادة هيكلتها.
المراجع
AlAbdeh, Maria, et Daher Joseph. À paraître. « L’engagement des Syriennes à l’épreuve : rapports sociaux de sexe et formes multiples de répression dans le processus révolutionnaire ». Dans Krefa, Abir, et Sarah Barrière (dir.) Le genre en révolution. Paris : PUF.
Abu Nahle, Lamis ; Penny Johnson, et Annelies Moors. 2009. « Wedding and War: Marriage Arrangements and Celebrations in Two Palestinian Intifadas. » Dans Journal of Middle East Women’s Studies, 5 (3): 11-35.
Ali, Zahra. 2018. « La fragmentation du genre dans l’Irak post-invasion. » Dans Nouvelles Questions Féministes, 37 (1) : 86-105.
Bucaille, Lætitia. 2013. « Femmes à la guerre. Égalité, sexe et violence. » Dans Critique internationale, 3 (60) : 9-19.
Boutron, Camille. 2012. « Chapitre 6. La “terroriste”, la “milicienne” et la “policière” : implication des femmes dans la violence armée au Pérou. » Dans Coline, Cardi. (dir.) Penser la violence des femmes, 138-154. Paris : La Découverte.
Chebli, Denia. 2019. « La révolte en héritage. Militantisme en famille et fragmentation au Nord-Mali (MNLA) ». Dans Cahiers d’Études Africaines, 2 (234) : 453-481.
Courbage, Youssef. 1997. « La fécondité palestinienne des lendemains d’Intifada. » Dans Population Bulletin, 52 (1): 223–33.
Freedman, J., Z. Kivilcim, N. O. Baklacıoglu (dir.) 2017. A Gendered Approach to the Syrian Refugee Crisis. New York: Routledge.
Debos, Marielle. 2013. Le métier des armes au Tchad. Le gouvernement de l’entre-guerres, Paris : Karthala.
_ 2008 « Les limites de l’accumulation par les armes. Itinéraires d’ex-combattants au Tchad. » Dans Politique africaine, 1 (109) : 167-181.
Gayer, Laurent. 2018. « La “normalité de l’anormal” : recomposer le quotidien en situation de guerre civile. » Dans Critique internationale, 3 (80) : 181-190.
Joseph, Suad (eds.) 2018. Arab Family Studies: Critical Reviews. Syracuse: Syracuse University Press.
_ 2004 « Conceiving Family Relationships in Post-War Lebanon. » Dans Journal of Comparative Family Studies, 35 (2): 271-293
_ & Johnson, Penny. 2009. « Introduction. War and Transnational Arab Families. » Dans Journal of Middle East Women’s Studies, 5 (3): 1-10.
Koloma Beck, Teresa. 2012. The normality of civil war. Armed groups and everyday life in Angola. Frankfurt/Main: Campus
Latte Abdallah, Stéphanie. 2005. « Subvertir le consentement. Itinéraires des femmes des camps de réfugiés palestiniens en Jordanie (1948-2001). » Dans Annales. Histoire, Sciences Sociales, 1 : 53-89.
Lubkemann, Stephen. 2008. Culture in Chaos. An Anthropology of the Social Condition in War. Chicago: The University of Chicago Press.
Linhardt, Dominique, et Cédric Moreau de Bellaing. 2013. « Ni guerre, ni paix. Dislocations de l’ordre politique et décantonnements de la guerre. » Dans Politix, 104 (4) : 7-23
Monsutti, Alessandro. 2004. Guerres et migrations : réseaux sociaux et stratégies économiques des Hazaras d’Afghanistann. Paris : Maison des sciences de l’homme
Pappé, Ilan. 2006. The Ethnic Cleansing of Palestine. Londres et New York: Oneworld
Richards, Paul. 2005. « New War: an ethnographic approach. » Dans Paul Richards (dir.), No peace, no war: an anthropology of contemporary armed conflicts, 1-21. Oxford: James Currey
Roth, Claudia. 2010. « Les relations intergénérationnelles sous pression au Burkina Faso. » Dans Autrepart, 53 (1) : 95-110
Santana de Andrade, Glenda. 2023. « At the Borderscape: experiences of Syrian women fleeing into Turkey and Jordan The Gender of Borders. » Dans Freedman, Jane ; Latouche, Alice ; Miranda, Adelina ; Sahraoui, Nina ; Santana de Andrade, Santan et Elsa Tyszler (dir.) Embodied Narratives of Migration, Violence and Agency. 69-87, New York: Routledge.
Shanneik, Yafa. 2021. « Displacement, humanitarian interventions and gender rights in the Middle East: Syrian refugees in Jordan as a case study. » Dans Journal of Ethnic and Migration Studies, 47 (15): 3329-3344.
Suerbaum, Magdalena. 2018. « Defining the Other to Masculinize Oneself: Syrian Men’s Negotiations of Masculinity during Displacement in Egypt. » Dans Journal of Women in Culture and Society, 43 (3): 665-686.
Turner, Lewis. 2020. « Syrian Refugee Men in Za‘tari Camp: Humanitarianism, Masculinities, and “Vulnerabilities”. » Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, online: https://civilsociety-centre.org/paper/syrian-refugee-men-za‘tari-camp-humanitarianism-masculinities-and-“vulnerabilities »
Thebaud, Françoise. 2014. « Penser les guerres du XXe siècle à partir des femmes et du genre. Quarante ans d’historiographie. » Dans Clio, Women, Gender, History, 1 (39): 157-182.
Vigh, Henrik. 2006. Navigating Terrains of War. Youth and Soldiering in Guinea-Bissau. New-York & Oxford: Berghahn Books
Viterna, Jocelyn. Women in War: The Micro-processes of Mobilization in El Salvador. New York, NY: Oxford University Press.
Vlassenroot, Koen, et Timothy Raeymaekers. 2004. « Conflict and Social Transformation in Eastern DR Congo. » Gent : Academia Press.
Weber, Florence. 2013. Penser la parenté aujourd’hui. La force du quotidien. Paris : Rue d’Ulm, coll. « Sciences sociales ».
Zuntz, Ann-Christin. 2021. « Refugees’ transnational livelihoods and remittances: Syrian mobilities in the Middle East before and after 2011. » Dans Journal of Refugee Studies 34 (2): 1400–1422.
[1] غداة الحرب العربية-الإسرائيلية في عام 1948، تحوَّلَ أكثر من 750 ألف فلسطيني من سكان الأراضي التي وقعت في قبضة إسرائيل إلى لاجئين في الأراضي والبلدان المتاخمة لإسرائيل بالدرجة الأولى، مثل الأردن ولبنان وسوريا وقطاع غزة (الخاضع للإدارة المصرية) والضفة الغربية (الخاضعة للسيادة الأردنية). بالإضافة إلى ذلك، تهجّر نحو 350 ألف فلسطيني (ثلثهم من اللاجئين للمرة الثانية) من الضفة الغربية وقطاع غزة بعدما احتلتهما إسرائيل في عام 1967 (بابيه 2006).
[2] هذا العدد هو ثمرة عمل جماعي بدأ خلال ندوة دولية حملت عنوان "الحرب والتحولات الأُسرية في الشرق الأوسط" ونُظِّمت في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (Ifpo)، بدعم من برنامج الوكالة الوطنية للأبحاث "لاجئ": نزاعات وهجرة (ANR LAJEH) بقيادة كامل الدرعي وبرنامج الوكالة الوطنية للأبحاث "شك" - سوريا: نزاعات وتهجير وشكوك (ANR SHAKK-Syrie)، بقيادة آنا بوجو.
Docteur en Études politiques à l’EHESS de Paris, elle a soutenu une thèse intitulée « S’engager à Yarmouk. Sociologie de la militance palestinienne en Syrie » portant sur la question des engagements militants en contexte conflictuel et autoritaire. Parmi ses dernières publications : « La mobilisation des réfugiés palestiniens dans le sillage de la « révolution » syrienne : s’engager sous contrainte », Cultures et Conflits, n°87, Automne 2012, pp. 119-137. « Hamas and the Syrian Uprising: a Difficult Choice », Middle East Policy, vol. 20, n° 3, Automne 2013, pp. 73-85. « Palestinian civil organisations in the Syrian uprising. Militant conversion and forms of self-management in crisis time », al-Majdal, n°57, été 2015, pp. 11-16.