التحولات العائلية والجندرية في غزة شهادات جَمَعَتْها عاملةٌ في المجال الإنساني (2000-2020)
تستعرض هذه المقالة شهادات نساء ورجال من قطاع غزة. جمعتُ هذه الروايات بين عامَيْ 2006 و2020 في إطار مهمة إنسانية سمحت لي ببناء علاقات متينة ومستمرّة مع هذه العائلات ومراقبة آثار الحروب المتكررة والهجمات الفجائية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأثناء الانتفاضة الثانية في عام 2002، بالإضافة إلى آثار إغلاق الحدود منذ عام 2006. جُمِعَت هذه الشهادات من نوعين من الأشخاص: عائلات من الطبقة الوسطى تعمل لدى منظمات غير حكومية دولية ومحلية ولصالح السلطة الفلسطينية أيضًا، وعمال يخسرون وظائفهم بسبب إغلاق الحدود مع إسرائيل، ما يمنع حركة الأفراد والتبادلات التجارية. سلطت هذه الشهادات الضوء على تغير الأدوار وإعادة رسم معالم التضامن بين الأقارب، وأعطت لمحة عن طريقة تعايش هؤلاء الأشخاص مع هذه التغييرات ونظرتهم إليها.
To cite this paper: Elena Qleibo,"التحولات العائلية والجندرية في غزة شهادات جَمَعَتْها عاملةٌ في المجال الإنساني (2000-2020)", Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, 2023-12-01 00:00:00. doi:
[ONLINE]: https://civilsociety-centre.org/ar/paper/التحولات-العائلية-والجندرية-في-غزة-شهادات-جَمَعَتْها-عاملةٌ-في-المجال-الإنساني-2000-2020على وقع الحروب: إخضاع اقتصاد غزة تدريجيًا (من عام 1967 حتى اليوم)
في عام 1967، احتل الجيش الإسرائيلي غزة ودق المسمار الأخير في نعش التحالف العربي الذي ضم مصر والأردن وسوريا والذي مُني بهزيمة ساحقة في "حرب الأيام الستة" ضد إسرائيل. تسبب الاحتلال بموجة هجرة إلى الأردن عُرفت بالنكسة. وسرعان ما خضع اقتصاد غزة لاقتصاد إسرائيل، بعدما اعتمد حتى ذلك التاريخ، هيكليًا، على اقتصاد مصر. وقضت هذه الدينامية على ركائز الاقتصاد الفلسطيني القائم بشكل أساسي على الصناعات الصغيرة والزراعة[1]. فتخلى الكثيرون من الرجال والشباب عن العمل الزراعي وتركوه للنساء وكبار السن والأطفال، وتوجهوا إلى إسرائيل التي كانت آنذاك بحاجة إلى يد عاملة منخفضة الأجر. واستُثمرت بشكل أساسي الأموال المتدفقة من الغزاويين العاملين في إسرائيل في النفقات العائلية[2] مثل بناء المنازل، وشراء الأدوات المنزلية، والأثاث. وابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، عمل آلاف الغزاويين لصالح إسرائيل أو في إسرائيل. وظهرت المئات من محال الخياطة لتلبية متطلّبات الأزياء والملابس الجاهزة المُباعة في متاجر تل أبيب. ودخلت المنتجات من إسرائيل والضفة الغربية المحتلة إلى غزة من دون قيود، وخلّفت أثرًا اقتصاديًا دامَ حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ازداد ارتباط اقتصاد غزة باقتصاد إسرائيل تدريجيًا حتى أصبح تابعًا له بالكامل، على الرغم من القطاع الاقتصادي المستدام الذي كان لينتج من إنشاء محال الخياطة. وبين عامَيْ 2005 و2006، قررت إسرائيل إغلاق الحدود مع غزة وفرضت عليها حصارًا[3] كانَ له آثار اجتماعية واقتصادية متعددة. فتوقف سوق الإنتاج في غزة، وأقفلت المحال أبوابها تدريجيًا، وانهار معها الاقتصاد الذي يتمحور حولها.
في ظل هذه الظروف، تزايدت النزاعات بين إسرائيل وسكان غزة شيئًا فشيئًا. وأعقبتها ثلاث حروب مدمرة في الأعوام 2008 و2012 و2014 ترتبت عنها خسائر فادحة في قطاع غزة لناحية عدد الضحايا والأضرار اللاحقة بالبنى التحتية. ودمّرت الدبابات الإسرائيلية الكثير من المحاصيل الزراعية والمنازل على وقع الغارات التي دفعت آلاف المزارعين نحو براثن الفقر[4]. ومع اندلاع حرب عام 2014، أُرغِم نصف مليون شخص على النزوح[5]. بشكل عام، طالت الحروب المتكررة مجتمع غزة بأسره والبنية التحتية كاملةً. فقد تضررت المراكز الصحية والمدارس وأنابيب المياه ونظام الصرف الصحي بشدة، وتَحول صعوبات كثيرة دون إعادة بنائها[6].
في سياق الدمار وغياب فرص العمل وشح الموارد، تبقى المساعدات الإنسانية مصدر الغذاء والعمل الوحيد على المدى القصير. تعتمد العائلات على المساعدات وتلبي احتياجاتها بفضل نظام قائم على الإقراض بين الأفراد. تتولى النساء، في معظم الأحيان، تسديد الأقساط الأسبوعية أو الشهرية للمؤسسات الصغيرة التي تبيع المواد الغذائية الأساسية، في ديناميةٍ تُطيل مدة الديون المترتبة على العائلات، من دون التمكُّن من إيفائها. وتدهورَ هذا الوضع الاقتصادي مع توقف الولايات المتحدة عن التمويل الإنساني في عهد الرئيس دونالد ترامب. فاعتبارًا من عام 2018، أعلنت الولايات المتحدة عن وقف تمويل الأونروا، داعمةً في الوقت نفسه خطة إسرائيل بضم مساحات شاسعة من الضفة الغربية.
وفي 10 أيار/مايو 2021، شنّت إسرائيل هجمات جديدة ردًا على إطلاق صواريخ محلية الصنع من غزة. وردت القوات الإسرائيلية بقصف متواصل استهدف المساكن والأراضي الزراعية والبنية التحتية الحيوية مثل شبكات المياه والكهرباء، ودمرت عددًا من المستشفيات والبنى التحتية الصحية، فضلًا عن مكتب دار الأمل للأيتام، وقُتل عشرات المدنيين من الرجال والنساء والأطفال. وأدانت منظمات حقوق الإنسان، مثل مركز الميزان[7] ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية[8]، العنف من الجانبين، على الرغم من عدم تناسب الرد الإسرائيلي مع الهجمات الفلسطينية ذات النطاق المحدود.
إعادة ترتيب العائلة والأدوار الجندرية
في هذا السياق المأساوي بين عاميْ 2006 و2020، جمعتُ شهادات العائلات الغزاوية لمعرفة كيف أثرت هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية-السياسية المهمة في الهيكليات العائلية والعلاقات الجندرية. معظم الأُسَر التي زرتها تتحدّر من عائلات ممتدة من جانب الأب، ومن المُلاحَظ أن حياة العائلة النووية تتداخل مع العائلة الممتدة. على سبيل المثال، يؤثر فقدان العمل أو غيابه داخل العائلة النووية على جميع أفراد العائلة الممتدة. تعيش ثلاثة أجيال تشمل الأجداد والأبناء المتزوجين وأولادهم تحت سقف واحد أو في شقق مجاورة. ومن أجل التعامل مع غياب العمل وفقدانه أو الدخل المنخفض الذي يدرّه العمل المتفرق، تعتمد العائلات اقتصادًا مشتركًا للنفقات من أجل ضمان وصول كل أفرادها إلى الموارد الأساسية. وفي هذا السياق، تشكل العائلة الممتدة مصدرًا أساسيًا للحماية، إذ يحافظ أفرادها على روابط متينة تقوم على المسؤوليات والواجبات المتبادلة. ولقد تَعزَّزَ دور العائلة الممتدة مع تدهور الوضع الاقتصادي واستحالة حفاظ العائلة النووية على استقلاليتها.
بعد ثلاثة نزاعات متتالية، تحولت آليات البقاء التي اعتُقد أنها مؤقتة إلى آليات دائمة. تستنفد العائلات مدخراتها لمحاولة سداد الديون المتراكمة. ويستخدم كل شخص استراتيجيات مختلفة. تتولى النساء في أغلب الأحيان مسؤولية العائلة ويلجأن إلى قروض متعددة لتلبية الاحتياجات الأساسية[9]. بالتالي، تنتشر ظاهرة المديونية. وفي ظل عدم وجود عمل مستقر بأجرٍ جيّد، فإنَّ دور النساء والأولاد الأكبر سنًا الذين بلغوا سن العمل يُعَدّ عاملًا بالغ الأهمية في الإدارة الاقتصادية اليومية. ومع ذلك، تُثير أشكال التكيّف هذه تساؤلاتٍ عديدة بشأن الدور الذي يُسنَد تقليديًا إلى الرجل بصفته كاسب الرزق. وفي هذا الإطار، من الضروري حماية صورته وكرامته. تُصوِّر الشهادات التي جُمعت هنا أشكال التكيف مع هذا الوضع الجديد التي اعتمدها كل فرد من أفراد العائلة. وفي حين يواجه معظم الرجال صعوبةً في تقبّل هذا التغيُّر في الأدوار، تتبدّل مكانة الأم والزوجة من خلال مساهمتها المباشرة في تحسين ظروف معيشة العائلة. ولكنها تسعى إلى الحفاظ على كرامة الزوج وصورة العائلة. بعض النساء يترددن بسبب رغبتهن في الحرية التي تبقى مشروطة بحماية عائلتهنّ. وترفض أخريات هذا التغيير الذي يعشنه باعتباره تحوُّلًا فرضه تدهور السياق الاقتصادي والاجتماعي-السياسي، ويُعبِّرن عن رغبتهن في الحفاظ على دور الزوجة والأم التقليدي، في دعمٍ تام للهيكلية الذكورية.
شهادات
عمر ونائلة، تراجع المستوى المعيشي لعائلةٍ من الطبقة الوسطى
في عام 2000، تعرفت على عمر الذي يبلغ من العمر 24 عامًا ويعمل كممرض في قسم الطوارئ في إسرائيل. لقد تزوج نائلة البالغة من العمر 17 عامًا في سنة 1997. نحن نتواصل بين الحين والآخر على مر السنوات. وأخبرني في عام 2013 كيف بدأت علاقتهما: "كانت نائلة صغيرة جدًا وتبلغ من العمر 17 عامًا عندما تزوجنا. كانت قد حصلت للتو على شهادة البكالوريا في جدة وتعيش في أسرة سعودية تحظى فيها بالرعاية والدلال. ما كانت حياتها في غزة لتختلف عن حياتها في السعودية لولا الاضطرابات التي أعقبت الانتفاضة الثانية. لم تعتد نائلة على الطلقات النارية والانفجارات، فقررنا أن تزور والديها في جدة. واجهنا صعوبة في إخراجها برفقة خالتها عبر رفح، وبقيت خارج غزة لأكثر من ستة أشهر بسبب إغلاق المعبر. وبعد عودتها وتلقي علاج للخصوبة، تمكنا من إنجاب ثلاثة أطفال. لقد فقدت عملي واستخدمنا جميع مدخراتنا وجزءًا من مدخرات أهلي. وبعد ثلاث حروب، لم تعد مساعدة العائلة تكفينا جميعًا لأن شقيقيّ الأكبر سنًا فقدا عملهما مثلي: فالأول كانَ يعمل في القطاع الخاص كمدير مشروع إنشائي أُلغي بسبب الحصار ومقاطعة المجتمع الدولي لحماس؛ وفقد الثاني عمله في إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية بسبب خفض تمويلها. وفي عام 2012، تدهور الوضع الاقتصادي، وما عادت مواردنا المالية وموارد العائلة تسمح إلا بوجبتَيْ طعام في اليوم، الإفطار والعشاء. ولم نستوفِ المعايير المطلوبة للاستفادة من المساعدات الإنسانية التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي للعائلات النووية المحرومة. ولم تكفِ قيمة القسائم الغذائية لجميع أفراد العائلة الممتدة. فكانَ عليّ مشاركة المواد الغذائية والبحث سرًا عن مصادر أخرى للمساعدة من دون لفت انتباه الجيران إلى وضعنا الاقتصادي. فنحن معروفون بكرمنا ولم نحتَج إلى أي مساعدة خارجية في السابق. لقد طلبنا المساعدة من أحد أقاربنا في قطر، ولكنها لم تكن مساعدة منتظمة ولا كافية. وعلى الرغم من أنَّ البطالة أصبحت منتشرة في كلّ المجتمع، إلّا أنَّ هذا الوضع شكَّلَ وصمة عار بالنسبة إلي، بصفتي رب العائلة. فالاضطرار إلى البحث عن المساعدة هو أمرٌ مُخجِل ومهين بنظر الجميع. لذلك، تحدثت إلى والدتي وإلى نائلة لتتولى الأخيرة مهمة الذهاب والبحث عن مصادر أخرى للمساعدات الإنسانية، وخصوصًا الغذاء. لا يُنظر إلى المرأة نظرة سلبية إذا أقدمت على هذه الخطوة... لقد فاجأتني بحيلتها الواسعة. فهي تتدبّر أمرها جيدًا وأنا مطمئن لأنها لا تبدو مستاءة من هذا الوضع الجديد. لقد تواصلَتْ مع عدّة منظمات محلية غير حكومية في الحي وتمكنت من الحصول على قسائم غذائية وبطانيات. كانت تذهب يوميًا مع زوجة أخي في نهاية اليوم للتسوق. ومن جهتي، أؤدي نوبات عمل في مستشفى الشفاء وأقدم الرعاية التمريضية في المنازل. هكذا نتدبّر أمرنا."
عندما قابلتُ نائلة في عام 2019، كانت تبلغ من العمر 37 عامًا. وخلال لقائنا، أطلعتني على وجهة نظرها بشأن التحولات في حياتها العائلية بعد إغلاق الحدود مع إسرائيل.
"أنا فخورة بنجاحي في دوري الجديد كامرأة عاملة خارج المنزل، على الرغم من أنني أفضل عدم الاضطرار إلى الخروج. في السابق، كان زوجي يُحضِر راتبه في نهاية الشهر وأتولى بنفسي إدارته. كنتُ أهتم بشؤون المنزل وبأطفال أخ زوجي وبأطفالنا. لم أخرج إلا لزيارة العائلة أو الطبيب، ودائمًا برفقة آخرين. صحيحٌ أنه كان من المُضني أحيانًا طلب الإذن من عمر للخروج. وفي حال لم أتمكن من بلوغه، كانَ عليّ طلب الإذن من حماتي. كنتُ أخرج عادةً للقاء أختي المتزوجة والمقيمة في غزة أيضًا. أما الآن فأنا أخرج طوال الوقت، ولكن بسبب الوضع وبدافع الحاجة. لم أعد أرى أختي بالوتيرة نفسها لأنني لا أملك شيئًا لأقدمه لها عندما أزورها. لذلك، أُفضِّل الانتظار قليلًا وتحضير قالب حلوى على الأقل لأتشاركه معها أثناء زيارتي. إذا لم أخرج، لا يمكننا تغطية نفقاتنا في نهاية الشهر. للأسف، علينا أيضًا سداد الديون، فنحن مُلزَمون. أكتفي بالقول لعمر "أنا ذاهبة" وهذا كل شيء، لم أعد أطلب الإذن، بل أُبلِّغه! أنا أفعل ذلك بلطافة، حتى لو أنَّ رفضه لن يكون معقولًا في ظلّ الظروف التي نعيشها. لم أعمل خارج المنزل في السابق. في منزل والديّ في جدة، درستُ وتعلمتُ الطبخ. لم أكن أشعر أنني قادرة على العمل خارج المنزل. لقد تفاجأت حقًا عندما طلبت مني مديرة إحدى المنظمات التي أتردد عليها أن أتطوّع[10] وأُعلِّم اللغة العربية لشابات لم يكملن تعليمهنّ الابتدائي. عندها، أدركتُ أنني أُجيد التدريس. لم أتخيل قط أنني قد أكونُ ماهرة كمُدرِّسة. أنا أعطي دروسًا في اللغة العربية مرتين في الأسبوع وأحيانًا ثلاث مرات في جمعية مجاورة، وبهذه الطريقة أعرف عن المساعدات المقدمة وأستمتع بلقاء أشخاص آخرين والتفاوض على الأسعار والتوافق على ترتيبات لاستدانة المال. أظهرَ لي هذا الوضع الجديد أنني أملك مهارات لم أكتشفها من قبل. أنا أشعر بأنّني تطوّرتُ شخصيًا في ظل هذا الوضع المأساوي الذي يعيشه الكثيرون من حولنا! ويستفيد الأولاد من وجود والدهم في المنزل، إذ يساعدهم في أداء واجباتهم المدرسية ويتحدث معهم مطولًا ويجيب على أسئلتهم".
حنان، ناشطة على الصعيدَين الاجتماعي والاقتصادي
تُعتبر حنان، البالغة من العمر 45 عامًا، من النساء اللواتي لا يجدن صعوبةً في الاستثمار خارج منزلهنّ، إذ تعمل كمُحاسِبة في منظّمة غير حكومية، وهي متطوّعة أيضًا منذ أن أنهت دراستها. هي متزوّجة وتُواصِل دعم جمعية نسائية في حيّ الزيتون حيث تعيش. التقيتُ بها في العام 2007 وواكبتُ مسيرتها خلال ثلاث حروب. كان زوجها أنور يعمل في معمل خياطة قبل أن يقوم بشراء ماكينة خياطة في العام 2006 على حسابه الخاصّ ليُتابِع عمله في المنزل بعد أن توقّفت الطلبات من إسرائيل. وعلى غرار الكثير من العائلات الأخرى في غزة، قرّر الزوجان الانتقال إلى منزل الأهل لتقليل النفقات وتسهيل مسألة رعاية الأولاد. في العام 2015، وصفت لي حنان وضعها قائلةً:
"أشعر أنّني محظوظةٌ. يواجه الأشخاص من حولنا مواقف صعبة على الصعيدَين المعنوي والاقتصادي، أمّا نحن فنتدبّر أمورنا بطريقةٍ أعتقد أنّها حلٌّ إيجابيٌ للجميع. في البداية، شعرتُ بالاكتئاب بعض الشيء عندما علمتُ أنّ أنوَر فقد وظيفته بعد الانتخابات[11]. لم نكن نتوقّع أن تُغلِق محلّات الخياطة، حتّى لو فُرِضَ الحصار على غزة. فكانت هذه المحلات تصنع الملابس الجاهزة لمتاجر الأزياء في تل أبيب. ولكن، لم يكن الأمر مجرّد حصار، بل كانت نقطة تحوّل مفصليّة... اضطررتُ أن أغيّر عاداتنا على الفور لتقليل نفقاتنا والحدّ من الدعوات وزيارات العائلة والجيران. كانت الحرب الأولى والثانية فظيعتَين، لا سيما تلك التي استمرّت من كانون الأول/ديسمبر 2008 إلى كانون الثاني/يناير 2009، إلّا أنّ الحرب الأكثر تدميرًا كانت في العام 2014. قام وفدٌ من برنامج الأغذية العالمي بزيارة تفقدية لنا وتمّ إدراجنا في برنامج توزيع قسائم الطعام التي كنا نستبدلها في متجر البقالة كما لو كنّا ندفع المال نقدًا. ولكن، بعد مرور عام تقريبًا، تمّت مراجعة المعايير، وتوقَّفَ البرنامج. نحن نتناول وجبات الطعام مع والدَيّ، وهذه هي الطريقة الأفضل لإدارة النفقات بين القروض والمواد الغذائية.
(...) شعرتُ أنني بحاجة إلى تجديد ذاتي من خلال نشاطٍ يجعلني مفيدة. لذلك، بدأتُ أربّي الأرانب. لقد نجحتُ بذلك، وكان الجيران يقصدونني لطلب النصائح، فتقدّمت إلى وزارة الزراعة بطلب تدريب لأصبح مساعدةً بيطريّةً مع توصية منحتني إياها المنظمة غير الحكومية التي أعمل لصالحها. وأنا اليوم سعيدةٌ للغاية، فأنا أساعد الآخرين لا من خلال معالجة حيواناتهم فحسب، بل أيضًا من خلال مناقشة دور المرأة في تدبّر الأمور لإعالة أسرتها. لا نعلم ماذا يخبّئ لنا الغد! ولا يجب أن أفكّر في عدم الاستقرار السائد في حياتنا. فنحن دائمًا ننتظر حربًا جديدةً وأتساءل عما إذا كانت هذه الدوامة ستتوقّف يومًا ما. أما أنور فأتعامل يومًا بيومٍ مع فترات الاكتئاب التي يمرّ بها وأخطّط للأمور على المدى القصير. أحلم بالذهاب في إجازة وأرغب في شراء خزانة لإخراج الملابس المكدّسة في الصناديق منذ سنوات، ولكن في الوقت الحالي كلّ هذه الأمور غير ممكنة".
سهى، أهمّية التعاون العائلي
في العام 2019، كانت سهى تبلغ من العمر 45 عامًا. هي من حيّ الشيخ رضوان، وكانت تعمل كمُحاسِبة في مكتب هندسة يملكه أحد أصدقاء والد زوجها أبو حيدر، ولكنّها تخلّت عن وظيفتها في سن الـ24 بعد زواجها وإنجابها توأمًا. اعتقدَتْ أنها تستطيع العودة إلى عملها لاحقًا، ولكن المكتب لم يعد بنشاطه السابق. فتقرّبت سهى من المنظّمة النسائية في الحيّ التي كانت تقدّم دورات في الإدارة والتمويل بهدف مساعدة الشابات على إدارة ميزانيّتهنّ. بدأت تعطي دروسًا مجانيّةً مقابل قسائم إنسانيّة ومواد غذائية تتلقّاها الجمعيّة كمساعدات للعائلات. لقد تحدّثت سهى عن تغيّر وضعها بعد فرض الحصار قائلةً:
"أبو حيدر، أي والد زوجي، مختار[12]. بالتالي، لديه التزامات تتعلّق بهذا المنصب الفخري. لقد تقاعد منذ العام 2015، وزوجي حيدر هو من يتولّى إعالة العائلة بجميع احتياجاتها. لم نرد أن نكون عبئًا على أبي حيدر، فقد تقدّم في السن واعتاد أن يحظى باحترام الجميع سواء من أفراد العائلة أو سكّان الحي. أصبح والد ووالدة حيدر بمثابة والدَيّ الحقيقيّين. ونظرًا إلى أنّ أبا حيدر لا يتحمّل فكرة الاستدانة، نقوم نحن بالاستدانة من أجله. فأحد أشقّاء حيدر يجب أن ينال شهادته الجامعية قريبًا، وشقيقه الآخر في السنة الدراسية الأخيرة في المدرسة ويحتاج إلى الكتب ومصروف الجيب لتغطية كلفة المواصلات. ليس من السهل شراء الطعام يوميًا. وزوجي حيدر (أبو خليل) سئم من التستّر. لقد استنفدنا مؤونتنا[13] منذ فترةٍ طويلةٍ. نشتري حاجاتنا يوميًا بالاستدانة، مثل معظم العائلات في الحي. وأعمل أنا على تقليص هذه الديون جزئيًا في نهاية كلّ شهر. نتشارك المأكل والمسكن مع عائلة زوجي. عندما انتقلنا للعيش معهم، ظهرت بعض التوترات وحالات سوء الفهم في البداية، ولكن من خلال العيش معًا، استطعتُ أن أتعرّف إلى حماتي بشكلٍ أفضل وأن أُثبت لها ما يمكنني القيام به للمساهمة في تلبية الاحتياجات اليومية. لقد تمكّنا [أي هي وحماتها] من شراء حاجاتنا بفضل قرضٍ من البقّال ومن الصيدلي بسهولةٍ نظرًا للمكانة التي تتمتّع بها العائلة اجتماعيًا. والواقع أنني محظوظةٌ لأنّ حيدر يساعد والدته في المنزل ويهتمّ بدروس الأولاد. يعمل حيدر وشقيقاه بشكلٍ غير منتظم، وبالتالي نذهب أنا وابنتي الكبرى سرًا إلى جمعيّات في الحي للحصول على قسائم طعام وللتواصل مع جمعيات أخرى تعرفني بسبب عملي التدريبي في الإدارة المالية. ولكن، لولا الوئام العائلي وحسن نيّة حماتي، لما استطعتُ الوصول إلى هذا العدد من الموارد!"
أمّ حسن، التوترات العائلية وسوء العلاقة بين الزوجَين
أمّ حسن عاملة اجتماعية في منظمة غير حكومية محلية، تبلغ من العمر 48 سنة وتعيش في بلدة بيت حانون. هي متزوّجة من نبيل، مهندس بالتدريب، وأمّ لخمسة أولاد. في العام 2020، كان ولدٌ واحدٌ فقط من أولادها لا يزال يسكن معهما. يمرّ نبيل بفترة اكتئاب منذ أن توقّف عن العمل. التقيتُ بأم حسن في العام 2020؛ تجنّبَت في البداية الحديث عن نفسها وعن علاقتها بزوجها، ولم يكن من السهل أن أجعلها تتحدّث عن مشاعرها الخاصّة. وشاركت أم حسن تجربتها فقالت:
"كان زوجي يعمل في مكتب هندسة. وكان يحبّ وظيفته ويتقاضى راتبًا جيّدًا. وكان يقضي كلّ نهاره خارج المنزل. وفجأةً، تَقلَّصَ نشاطه بشكل ملحوظ. فبعد قضاء حياة مليئة بالعمل، أصبح الروتين الجديد والمختلف تمامًا جزءًا من حياتنا اليومية، وفرضَ نفسه علينا بالقوة، وزوجي يشعر أنه لا يملك خيارًا آخر. يبذل جهودًا كبيرةً للعثور على أعمال صغيرة في الحيّ في مجال الترميم ويملأ وقته ويكسب بعض المال. يخرج من المنزل ويلتقي بالناس ويتحدّث معهم. ليس ماهرًا في مساعدة ابننا الذي لا يزال في المدرسة، أمّا حماتي فلا تُجيد القراءة. والواقع أنّ نبيل يحاول الجلوس بجانبه في بعض الأحيان عندما يكون بحالة جيّدة، ولكن لا يقوم بذلك دائمًا. أنا أحصل على بدل يومي من المنظّمة غير الحكومية التي أعمل فيها كعاملة اجتماعية، ويمكنني الحصول على قسائم كمساعدات إنسانيّة. عملي يُبرِّر خروجي اليومي من المنزل ويسمح لي بالمساهمة بتكتّم في تلبية احتياجات العائلة. أبرز همومي هي تعليم ابننا الأصغر والمشاكل الصحيّة التي ظهرت لدى نبيل بعد فترةٍ من توقّفه عن العمل. فإضافةً إلى فترات الاكتئاب التي يمرّ بها، تتدهور صحّة قلبه عندما يشعر بالضغط النفسي. يعاني نبيل من الاكتئاب في فترات معيّنة ويحبس نفسه في غرفةٍ لتجنّب والدته بشكلٍ خاص، وهي سيّدة مسنّة لم تعد قادرة على الخروج وتُعارِض خروجي من المنزل يوميًا. وهي تضغط على ابنها ليفرض سيطرته عليّ بشكلٍ أكبر. هو يعلم أسباب خروجي من المنزل، لكنه لا يريد مضايقة والدته وتذكيرها بالوضع الذي نعيشه. في السابق، كانَ من المستحيل معارضة كلام أمّ زوجي الأرملة، ولكن الآن يتعيّن على أحدٍ ما إعالة العائلة، وأنا، زوجة الابن، من يقوم بذلك!"
بعد أشهر من الاتصالات المتكرّرة واللقاءات والمكالمات الهاتفية، تمكّنت من كسب ثقتها وطرح بعض الأسئلة عن خصوصيّتها.
"أُفضِّل عدم التفكير في ما يحدث لعلاقتنا كزوجَين. كنّا نحظى بعلاقة وطيدة لا تتزعزع لسنواتٍ، أمّا الآن فلم نعد نخبر بعضنا كلّ شيء، وهذا الوضع بات اعتياديًا. فهو يؤدّي واجبه كزوج في السرير، ولكن بسبب الروتين الجديد الذي فُرض علينا أعتقد أنه يعتبر هذا الأمر واجبًا عليه. وعلى الرغم من أنّه يجعلني أشعر أنني أحظى بدعمه، إلا أنّه يبدو غائبًا وقليل الكلام. تتحدّث النساء في الجوار عن مشاكلهنّ الزوجية بسهولة مطلقة. أمّا أنا فأعتبر أنّ هذا الموضوع هو مسألة خاصّة بي، ولا أشعر بالارتياح للحديث عنه. فهنّ يشتكينَ من قلّة الأداء الجنسي، ولكن وضعنا مغايرٌ. بالنسبة لي، مشكلتنا أكثر غموضًا..."
سحر، بين التكفّل بمصاريف العائلة والعنف الذكوري
قابلتُ سحر عام 2004 عندما كانت تنتظر مولودتها الأولى. كانت تعيش في مبنى في منطقة الرمال حيث كانت تقوم بالأعمال المنزلية لثلاثة أشخاص. سحر هي الابنة الصغرى لعائلة فقيرة في الشجاعية، وهي الزوجة الثانية لمهدي، لاجئ كافحَ ليُقنع عائلة سحر وعائلته بزواجهما[14]. لم تتعرّف سحر إلى زوجة مهدي الأولى، يسرى، قبل زواجها. فكانت تعلم أنها أكبر منها بقليل وأنها حصلت مؤخرًا على شهادة التوجيهي (أي شهادة البكالوريا الفلسطينية). شعرت سحر بالذنب حيال يسرى لأنَّها أصبحت "ضرّتها"، كما شعرت بالغيرة تجاهها لأنَّها استطاعت أن تتعلّم على عكس سحر التي لم تتمكّن من إنهاء دراستها الثانوية. أسفرَ زواجها من مهدي عن ابنتَين تعيشان في غرفة المبنى في الرمال حيث يعمل مهدي كحارس. كانت سحر تخرج للعمل وتترك ابنتَيها مع يسرى وأحيانًا مع والدَيها في الشجاعية. وبعد فترة وجيزة من بدء النزاع في العام 2012، اشتكى أحد المستأجرين من مهدي، ما تسبّب بفصله من وظيفته. وخسر إمكانيّة البقاء في الغرفة المتواضعة التي كان الثنائي يعيش فيها. ومنذ ذلك الحين، تَعيَّنَ على الزوجَين العيش مع والدة مهدي. وعندها، تضامنت الضرّتان معًا. فأصبحت سحر مصدر الدخل الرئيسي للعائلة، في حين تولّت يسرى مهمّة الاعتناء بالأولاد مع حماتها. وشرحت لي سحر قائلةً:
"مرّ أسبوعان ولم يجد مهدي عملًا. فقرّرت الذهاب إلى المبنى ومواصلة عملي في التنظيف هناك. السيدة الأجنبية تحتاج إليّ مرّتين في الأسبوع، وبالتالي أعمل أربعة أيّام في الأسبوع وأترك الأولاد مع حماتي. لم أكن لأعمل لولا مساعدتها. أحيانًا، أترك الفتاتَين، لا سيما الصغرى، مع يسرى، رغم أنني لا أثق بها لأنّ علاقتنا ليست جيّدة. أخشى أن تعتني بولدها فقط وتُهمِل ابنتيّ. بعد مرور بضعة أسابيع، دعتني السيّدة الأجنبية للحضور إلى مكان عملها، وهو عبارة عن منظّمة دوليّة غير حكومية، وكانوا يُريدون توظيف شخصٍ ثانٍ لتنظيف مكاتبها. وتمّ توظيفي مع راتبٍ وتأمين صحّي! شعرتُ بسعادةٍ غامرةٍ وأسرعتُ إلى حماتي لأزفّ لها الخبر السعيد، وابتهجَتْ بالفعل. وأعطت يسرى تعليقات إيجابية حول أنّنا سنحصل على المزيد من المال. أمّا زوجي فكانت ردّة فعله باردة نوعًا ما.
(...) سمح لنا الراتبان الأوّلان بالحصول على ائتمانٍ لدى بقّال محلي وائتمان آخر لدى الصيدلي. بعد ذلك، طلبتُ من حماتي الإذن لبناء غرفة خاصّة بالأطفال على الأرض المحيطة بالمنزل. لقد دعمَت هذه الخطوة، وطلبتُ من أخي مباشرة العمل كونه متخصّص في البناء. غير أنّ حرب العام 2014 أوقفت كلّ المشاريع. حافظتُ على وظيفتي، وفي العام 2015 أكملتُ سعيي لإنجاز خططي. في العام 2019، تمكّنت من إصلاح سقف المنزل وبناء غرفتَين لبناتي الثلاث وليسرى وابنها. ولكن، كلّما اقتربتُ من حماتي واستفدتُ من دعمها، كلما تدهورت علاقتي بمهدي. مررنا بفترةٍ عصيبة: فلم يكن مهدي يغادر الفراش؛ وإذا قام من الفراش، كان يضربني أو يضرب الأولاد. لم أكن أرغب في الانفصال عنه في تلك الفترة لأنني كنتُ أتفهّم إحباطه الناتج عن فقدانه وظيفته وعدم عثوره على أي وظيفة منذ ذلك الحين. لم يكن يتحمّل هذا الإذلال، وكان يتحوّل إلى رجلٍ عنيف. لم يعد الأولاد يكنّون له أيّ احترام. فلم يكن قادرًا على تقديم أي شيء لهم. لم أعرف ما يجب القيام به. أخفيتُ حقيقة أنه كان يضربنا لأنني كنتُ أتفهم يأسه كونه يعتمد عليّ لشراء سجائره. هو يشعر بالإهانة. فلطالما كانَ هو المسؤول عن المنزل ...
ذاتَ يومٍ، ضربني مهدي بشدّة لدرجة أنه تركني على الأرض مع ذراعٍ مخلوعة، فهربت بناتي من المنزل وهرعن لإبلاغ والديّ. اعتبرت ابنتي الكبرى أنّه تجاوز الحدود، وكانت خائفة عليّ وعلينا جميعًا. أتى أحد أشقائي لاصطحابنا وغادرنا البيت للاحتماء في منزل والدَيّ. أشكر الله وأحمده أنني لم أُرزَق بصبيّ. فأتساءل أيّ تربية كنتُ لأقدّمها له لو شهد على أعمال والده العنيفة؟ كيف يمكن تربيته على احترام المرأة في مثل هذه الظروف؟"
سيرين، خيار الطلاق
كانت سيرين تبلغ من العمر 32 عامًا في العام 2012. هي أمّ لولدَيْن ومسؤولة عن الشؤون المالية في منظّمة غير حكومية دولية. تتحدر هي وزوجها عنتر من عائلتَين محليّتَين محترمتَين، ولكن رغم ذلك تضرّرا بشدّة من الانعكاسات السلبيّة الناجمة عن خسارة عنتر لعمله الذي سرعان ما أصبحت تصرّفاته عنيفة. تحدّثت سيرين عن لقائهما وقالت:
"التقينا في العام 1998 خلال حفل زفاف. رقصنا طوال الليل. كان حبًا من النظرة الأولى... أحببتُه بجنون لأكثر من عام. وطلبَ الإذن لزيارتي بمساعدةٍ من عمّتَيْه اللتين تعيشان في غزة. كان يأتي كلّ ليلة لمدّة شهر كامل، وكان يرسل لي الورود الحمراء باستمرار، ولم تعرف أمّي ماذا يجب أن تفعل بكلّ تلك الورود! وفجأةً، غادرَ إلى الرباط لعدّة أشهر دون أن يخبرنا بأيّ شيء. كانت هذه الخطوة إهانةً لعائلتي. وبعد مرور فترة طويلة لم تصلني فيها أي أخبار عنه، بدأتُ أخرج مع صديقاتي من جديد، غير أنني لم أستطع أن أنساه... وذات يوم، عاد بدون سابق إنذار وأرسل عمّتَيه مرّةً أخرى لتطلبا يدي للزواج... وافقت عائلتي على الرغم من الإهانة التي سبق ووجّهها لنا. كان زواجًا سعيدًا وكنّا مسرورَين للغاية... رُزقنا بولدَين يُفرِحان قلبنا.
وتذكّرت السنتَين 2006-2007 فقالت:
أحاول أن أتذكّر متى بدأ عنتر يتغيّر (...). ظهرت أعمال الفوضى في البداية، وبعد فترة وجيزة بدأت الهجمات المرتبطة بالانقلاب المسلّح في تموز/يوليو 2007 [15]... وبين ليلةٍ وضحاها، بدا وكأنّ حياتنا تنهار (...). بعد مرور بضعة أسابيع، صدر قرار السلطة الفلسطينية. لم يعد الموظّفون يذهبون إلى العمل، لا سيّما أصحاب المناصب العليا، ولكنّهم لم يتوقّفوا عن تلقّي رواتبهم. بالتالي، لم يعد عنتر قادرًا على الذهاب إلى المكتب. كان يحبّ مهنته كمحامٍ. لذلك، عدم ذهابه إلى العمل دمّره شيئًا فشيئًا لأنّه لم يكن يستطيع أن يفكّر بالقيام بأيّ شيء آخر. وكان يذهب إلى النادي الرياضي مع أصدقائه لتضييع الوقت. ثم بدأ يصبح غيورًا جدًا وجعلَ حياتي بائسة. لم يعد يسمح لي بالخروج مع أحد من دونه، إلا في حال الذهاب إلى العمل. كانَ من الممكن أن أزور والدتي بشرط أن أطلب إذنًا منه. أما هو فقد سافر إلى عائلته في المغرب مع ابننا البكر من دون أن يطلب مني الإذن. وأدركتُ أنّه يستطيع السفر بحريّة مع الأولاد لأنّهما يحظيان بجواز سفر مغربي وبتصريح إقامة في المغرب. فخشيتُ أّلا يعود إلى غزة!
(...) أنام مع ولدَيَّ منذ ستّة أشهر. فلا أتحمّل أن يلمسني. يخنقني بحضوره، ولا يزال يتوقّع مني أن أكون لطيفةً معه جنسيًا! بات سلوكه متقلّبًا... أحيانًا، أعتقد أنّ الأمور تتحسّن، ثم يتغيّر مرّةً أخرى. ذات ليلة، كان لئيمًا معي وأهانني قائلًا إنني قتلت ابنه عمدًا (تعرّضت سيرين للإجهاض عندما كان زوجها مسافرًا). دفعني وسقطتُ على الأرض واصطدم خدّي بالطاولة وجرحتُ نفسي. أخذتُ السيارة وذهبتُ إلى منزل أمي مع ولدَيَّ. مكثتُ هناك لمدة أسبوعَين. كانت هذه المرّة الثانية التي أتركه فيها بهذا الشكل [...]، ثم قرّرتُ الطلاق. ولكنَّ عنتر محظوظ! فوالدتي وأهلي يعشقونه ويعذرونه معتبرين أنّ البطالة هي التي تؤثّر عليه بشكلٍ كبيرٍ وتُسبِّب هذا التغيير في سلوكه. ولكن، لم يعد بإمكاني أن ألتمس له الأعذار بعد الآن. وفي نهاية المطاف سأتركه، لكنني أنتظر أن يُدرك إخوتي ووالدتي أنه ليس لدي خيار آخر.
يمكنني أن أترك زوجي وأتخلّص أخيرًا من معاناتي من خلال الإدلاء ببلاغ للشرطة واللجوء إلى منزل والدتي. ولكن، سيغضب عنتر إذا تقدّمت بشكوى ضده بتهمة الإساءة وستحصل فضيحة كبيرة. منذ وفاة والدي، بات من واجبي أن أحافظ على صورتي في المجتمع. ففي مجتمعنا الذكوري التقليدي في غزّة، يُعتبر الأب ركيزة الدعم الأساسية. أمّا الآن فعلى أخي أن يحمي صورتي وصورة أولادي. أشقائي لا يُبررون العنف الذي يمارسه عنتر تجاهي، ولكن في الوقت نفسه يريدون تجنّب فضيحة الانفصال مهما كلّف الأمر. ويخشون هذا الوضع بسبب نظرة المجتمع إلى المرأة المطلّقة التي لديها أولاد[16]. كنتُ أُدرِك أن "الوضع" لن يتغيّر بين ليلةٍ وضحاها، وأنه سيتعيّن عليّ اتخاذ قرار عاجلًا أم آجلًا، وكان زوجي على الرغم من كل شيء هو حامي العائلة وحامي سمعتي. وعلى الرغم من أنه يضربني ويسيء إليّ لفظيًا، إلا أنني فضّلتُ هذا الموقف على أن أكون وحيدةً. كنت أبحث عن سبب وجيه يمكن أن يقنع عائلتي بدعمي في قرار الانفصال. وإلا لما استطعتُ أن أنفصل عنه. في النهاية، اكتشفت أنه تزوج وأعلن عن زواجه. بالتالي، هو من سرّع الأمور من خلال منحي سببًا شرعيًا للانفصال.
وتحدّثتُ معها بعد طلاقها في العام 2016:
هذا نصيبي ولا وقت لديّ للتذمّر... بدأتُ أسترجع إيماني بالحياة مرّةً أخرى مع مستقبل أفضل. في غزة، للحريّة قيود... أفكّر في أفلام فاتن حمامة المصريّة، "أنا حرة"، وفي روايات النساء مثل ليلى بعلبكي، وأُدرك أنّ فكرة المرأة الحرّة مجرّد حلم ورديّ في ظلّ الواقع الذي أعيشه... أنا أمّ ولديّ واجبات تجاه أولادي. بدأتُ أزور بعض العائلات مع والدتي لإعادة الروابط الاجتماعية التي كنتُ قد علّقتها خوفًا من القيل والقال ولأفتح المجال أمام ولدَيَّ ليحظيا بأصدقاء يكبران معهم. فسيتزوّجان يومًا ما ويجب أن أكون قادرة على العثور على زوجة مناسبة لكلٍّ منهما".
قائمة المراجع
Abu Nahle, Lamis, Penny Johnson & Annelies Moors. 2009. « Wedding and War : Marriage Arrangements and Celebrations in Two Palestinian Intifadas. » Dans Journal of Middle East Women’s Studies, Vol. 5, n° 3, 11-35.
Adjamagbo, Agnès, et Anne-Emmanuèle Calvès. 2012. « L’émancipation féminine sous contrainte. » Presses de Sciences Po | « Autrepart », 2012/2 n° 61, 3 - 21.
Barakat, Halim. 1985. « The Arab Family and the Challenge of Social Transformation. » Dans Elizabeth Warnock-Fernea (ed.), Women and Family in The Middle East, Austin, University of Texas Press, 27 - 48.
Bucaille, Lætitia. 1998. Gaza : la violence de la paix. Éditions Science Po, Paris.
Bucaille, Lætitia. 2013. « Femmes à la guerre. Égalité, sexe et violence. » Critique internationale, 2013/3, n° 60, 9-19.
Cyrulnik, Boris. 2002. Un merveilleux malheur. Paris, Odile Jacob (1re édition, 2000).
Flores, Margarita et al. 2005. « Food security in protracted crises : building more effective policy frameworks. » Dans Disasters, vol. 29 Supplément 1 (2005) : S25-51. Alinovi, Luca et al. « Beyond Relief Food Security in Protracted Crises », FAO report 2008, Practical Action Publishing.
Muhanna, Aitemad. 2013. Agency and Gender in Gaza, 4.
Sen, Amartya. 1999. Development as freedom. Oxford University Press, New York.
Sen, Amartya. 1980. « Famines. » World Development, Vol. 8, no 9, 613-21.
Gayer, Laurent. 2018. « La “normalité de l’anormal” : recomposer le quotidien en situation de guerre civile. » Presses de Sciences Po, « Critique internationale », 2018/3 n° 80, 181 - 190.
Latte Abdallah, Stéphanie. 2005. « Subvertir le consentement. Itinéraires des femmes des camps de réfugiés palestiniens en Jordanie (1948-2001). » Annales. Histoire, Sciences sociales, 2005/1, 60e année, 53-89.
Lazarus, Richard et Folkman Susan. 1984. Stress, Appraisal, and Coping, New York, Springer.
Manciaux, Michel et al. 2001. La résilience : résister et se construire, Genève, Cahiers médicaux et sociaux.
Muhanna, Aitemed. 2013. Agency and Gender in Gaza, Masculinity, Femininity and Family during the Second Intifada, Oxfordshire/New York, Rutledge,.
https://www.ochaopt.org/sites/default/files/hno_hrp_dasbhoard_2021.pdf
PCBS Violence Survey in the Palestinian Society, Preliminary Results, (2019).
Richards, Paul. 2004. No peace, no war : an anthropology of contemporary armed conflicts. Ohio, Ohio University Press.
Thébaud, Françoise. 2014. Penser les guerres du XXe siècle à partir des femmes et du genre. Quarante ans d’historiographie. Clio, Women, Gender, History, 2014/1 (n° 39), 157-182.
Vlassenroot, Koen, Salomé Ntububa et Timothy Raeymaekers. 2006. « Food Security Responses to the Protracted Crisis Context of the Democratic Republic of the Congo. » Conflict Research Group, University of Ghent.
[1] روي، ساره. 2004، قطاع غزة، الاقتصاد السياسي القائم على تراجع التنمية (The Gaza Strip, the political economy of de-development)، واشنطن العاصمة، معهد الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 1995، 65-70.
[2] بنديلاك، جاك. 1999. الاقتصاد الفلسطيني، من الارتهان إلى الاستقلالية (L’Économie palestinienne, de la dépendance à l’autonomie)، باريس، لارماتان، 17-22.
[3] أعني بهذا المصطلح إغلاق الحدود مع إسرائيل الذي يمنع حركة الأشخاص والتبادلات التجارية.
[4] تضرر اقتصاد غزة بشدة. يعاني العمل الزراعي بشكل خاص من تدمير البنى التحتية، وتقع أفضل الأراضي للإنتاج الزراعي بالقرب من الحدود.
[5] بيانات نشرتها الأونروا، راجع/ي صفحة الويب: https://www.unrwa.org/ar/نزاع-غزة-عام-2014
[6] تقرير اللجنة المستقلة للتحقيق بشأن النزاع في غزة في عام 2014 - A/HRC/29/52؛ تقرير عن الاستنتاجات المفصلة التي خلصت إليها لجنة التحقيق بشأن النزاع في غزة في عام 2014 A/HRC/29/CRP.4.
[9] يقوم نظام الإقراض على الاستدانة من مؤسسات تجارية مختلفة في الحي، مثل متجر المواد الغذائية أو بائع الفواكه والخضار أو الصيدلية. ويعتمد المبلغ الممنوح على سمعة العائلة. ولا تُسدَّد الديون بالكامل أبدًا.
[10] على الرغم من أنها متطوعة، فهي تحصل على القسائم الغذائية وغيرها من الضروريات التي تتلقاها المنظمة.
[11] تتحدث حنان عن الانتخابات التشريعية لعام 2006.
[12] كان "المختار"، الذي يُسمّى أيضًا "الكبير" (نسبةً إلى السنّ)، يعمل كوسيط بين عائلة أو أكثر في القرية والسلطة المركزية في عهد الإمبراطورية العثمانية؛ فكان مُكلَّفًا بمهام إدارية معيّنة وبحلّ المشاكل من أجل الحفاظ على الأمن. أمّا اليوم فالمختار هو رجلٌ مسنٌّ معروفٌ بحكمته ويحظى بالاحترام على مستوى المجتمع المحلّي ويشارك في حلّ النزاعات بين العائلات والمجتمعات المحلية.
[13] غرفة المؤونة في البيوت الفلسطينية، تسمّى "المونة" أي المواد الاحتياطية. واليوم، لا تزال بعض المنازل تُخصِّص هذه الغرفة لتخزين المواد الغذائية.
[14] تنحدر سحر من عائلة من السكان المحلّيين، في حين أنّ مهدي من عائلة لاجئة من النصيرات.
[15] بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية، أعلنت الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية أنها ضدّ "حماس" باعتبارها منظّمة إرهابية. وقامت المنظّمات الدولية بدورها بتجميد المشاريع القائمة. استولت "حماس" على السلطة بالقوة في العام 2007. يعتقد العديد من معارفي أنه منذ ذلك الحين فرضت إسرائيل حصارًا كاملًا. وفي تلك الفترة، شعر سكّان غزة بآثار الحصار المأساوية.
[16] امرأة لم يعد زوجها يريدها. يعتبر المجتمع أنَّ الطلاق وصمة عار لأنّ الناس يعتقدون أنّ المرأة لم تكن زوجةً صالحةً وهذا ما أدّى إلى حصول الطلاق.
Elena Qleibo est une anthropologue qui a vécu et travaillé pendant une douzaine d’années dans la bande de Gaza, menant des recherches sur les dynamiques sociales tout en exerçant en tant que professionnelle de l’humanitaire. Jusqu’à la fin de l’année 2020, elle a occupé le poste de chef de mission pour la Palestine au Secour Islamique France, intervenant aussi bien à Gaza qu’en Cisjordanie. Elle est chercheuse associée à l’Ifpo Amman, et membre de la communauté du Centre de compétence en négociation humanitaire depuis avril 2020. Elle a publié Gaza s’en sortir, sans sortir. Ethnographie de la vie quotidienne sous le blocus, Éditions Croquant, 2020.