مبادرات التضامن والفضاء العملاني والمدني الذي تمتعت به منظمات المجتمع المدني في لبنان أثناء الإغلاق العام من كانون الثاني إلى آذار ٢٠٢١
يقدم هذا الموجز نظرة عامة إلى البيانات الرئيسية للدورة الثانية لمسح مبادرات التضامن في لبنان في أعقاب انفجار بيروت بتاريخ الرابع من آب/ أغسطس ٢٠٢٠. يركز هذا البحث على الفضاء المدني وفضاء منظمات المجتمع المدني العملاني في لبنان أثناء الإغلاق المرتبط بجائحة كوفيد ١٩ وحالة الطوارئ بين شهري كانون الثاني/ يناير وآذار/ مارس ٢٠٢١.
جمع مركز "دعم لبنان" البيانات بين ٢٣ كانون الثاني/ يناير و ٤ آذار/ مارس ٢٠٢١، استناداً إلى استبيان شمل ١١٩ منظمة ومبادرة مدنية.
أجري المسح بالشراكة مع مؤسسة فرنسا-Fondation De France
To cite this paper: Lebanon Support,"مبادرات التضامن والفضاء العملاني والمدني الذي تمتعت به منظمات المجتمع المدني في لبنان أثناء الإغلاق العام من كانون الثاني إلى آذار ٢٠٢١", Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, 2021-06-01 00:00:00. doi:
[ONLINE]: https://civilsociety-centre.org/paper/مبادرات-التضامن-والفضاء-العملاني-والمدني-الذي-تمتعت-به-منظمات-المجتمع-المدني-في-لبنان-أثناء-0الجهات الفاعلة المحلية في مقدمة جهود المساعدة والإغاثة
تواصل تدهور الوضع الاجتماعي الاقتصادي في البلاد بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس ٢٠٢١، وتفاقم هذا التدهور لاحقًا بسبب موجات جائحة كوفيد ١٩ والإغلاقات المتعلقة بها. وقد ساهمت الأزمة الاقتصادية والمالية في مفاقمة الفقر، بحيث أصبح جزءٌ كبيرٌ من السكان غير قادر على تأمين احتياجاته الأساسية. في هذا السياق، وحتى أثناء الإغلاقات الكاملة، تبقى الجهات الفاعلة المحلية في المجتمع المدني المستجيبة الأولى على الأرض، حيث تبلغ نسبة الجهات المستجيبة من منظمات المجتمع المدني المحلية ٤٥%، ومن منظمات المجتمع المدني الوطنية ٣٣% (وهي تعمل على المستوى الوطني)، والمبادرات الفردية ٧%، والحملات ٢%. وهذه النسب تؤكد الدور المركزي الذي تؤديه الجهات الفاعلة من منظمات المجتمع المدني المحلية والوطنية، حيث تتصدر الاستجابات الإنسانية في أوقات الأزمات. ومجالات التدخل الأكثر ذكراً من قبل هذه الجهات الفاعلة هي التبرع بالغذاء والماء (مثلما ذُكر في الاستجابة المباشرة في شهر آب/ أغسطس على أثر انفجار مرفأ بيروت، انظر/ي هنا)، والدعم النفسي، وحماية الأطفال، والإحالات.
وكانت البيانات بعد الانفجار أظهرت تضارباً بين مجالات التدخل والأولويات المحددة، بيد أنها تظهِر في الدورة الثانية للمسح، أنّ النشاطات والتدخلات كانت أكثر انسجاماً مع الأولويات والاحتياجات على أرض الواقع.
القيود والعوائق وتقلص الفضاء المدني
على الرغم من الجهود المتعددة على الأرض، فإنّ %٤٧ من المشاركين/ات في الإستبيان ذكروا أنّ استجابة المجتمع المدني كانت "ضعيفة"، ووصفها ١٣.٥% بأنّها "متوسطة"، ولم يصفها سوى ۱٤.٥% بأنها "جيدة". فقد واجهت جهات المجتمع المدني الفاعلة عوائق وتحديات عملانية وهيكلية، ولاسيما أثناء الإغلاق العام المفروض بين كانون الثاني/ يناير وآذار/ مارس ٢٠٢١، ما حدّ بوضوحٍ تأثيرها وفعاليتها.
يقول أحد العاملين في المجتمع المدني: "[...] كان التضامن حافزاً بالفعل من حيث المعنويات، وكانت هنالك حاجة ماسة لمبادرات استجابة، ولاسيما بسبب غياب الدولة. غير أنّ التضامن يتلاشى ببطء، ولن تكون غالبية المبادرات قادرةً على المساعدة والدعم (ما سيؤدي إلى مزيدٍ من الهشاشة وعدم الاستقرار). كما أنّ مبادرات الاستجابة حدثت بسرعة كبيرة في بعض الحالات من دون تنسيقٍ ومسحٍ وتقييمات دقيقة. فقد تلقى عشرات الأشخاص الذين أعرفهم دعماً لم يكونوا يحتاجونه لوقتٍ طويل (أموال نقدية، طعام، وما إلى ذلك) في حين أنهم لم يكونوا محتاجين أو متأثرين".
أثناء الإغلاق التام مطلع العام ٢٠٢١ في لبنان، أصبحت التحديات والقيود أمام عمل المجتمع المدني أكبر حجماً وتركيباً. إذ تذكر غالبية من المشاركين/ات في الإستبيان قيود مرتبطة بالقيود المصرفية التي أثرت في تقديم المساعدة والمعونة (٤٩%). فمنذ بداية الأزمة الاقتصادية الحادة، فرضت المصارف إجراءات ظرفية تقيد وصول أصحاب الحسابات إلى حساباتهم بالعملة الأجنبية، وأضافت عمولات إضافية على عمليات التحويل والسحب، إضافةً إلى عدم السماح بالسحب من الحسابات المودعة بالعملة الأجنبية إلا بالليرة اللبنانية وبسعر صرف منخفض. وكان لتلك الإجراءات تأثير خاص في قطاع المجتمع المدني، باعتبار أنّ الغالبية العظمى من تمويل منظمات المجتمع المدني يأتي بالعملات الأجنبية، وعملياً لم تتمكن تلك المنظمات والمستفيدون/ات منها من الوصول إلى ذلك التمويل.
تتضمن قيود مهمة أخرى تقييدات التنقل المرتبطة بإجراءات الإغلاق الهادفة إلى الحدّ من انتشار فيروس كوفيد ١٩، من قبيل الوصول المقيّد إلى مكاتب المنظمات (٢٥%) أو إلى مناطق معينة للوصول إلى المستفيدين/ات (٢٣%) أو الوصول إلى المزودين (۲۱%). وقد وضعت الحكومة آليةً للتصدي لهذه القضايا المتعلقة بالتنقل، لكن عملية الحصول على تصاريح السماح بالتجول كانت بالغة الصعوبة بالنسبة إلى هذه الجهات الفاعلة. وفي هذا المجال عينه، أبدى أكثر من٧٣% من المشاركين/ات في الإستبيان عن اعتقادهم بأنّه كان يجب استثناء تلك المنظمات من الإغلاق بسبب استجابتها لاحتياجات طارئة.
بتاريخ ١٧ شباط/ فبراير، أصدر وزير الداخلية طلب بالوصول إلى البيانات الشخصية للمستفيدين من المساعدات للموافقة على إصدار تصاريح لتحرك جهات المجتمع المدني الفاعلة التي تقوم بنشاطاتٍ منقذة للحياة، من دون تقديم تعريفٍ لتلك النشاطات، أثناء الإغلاق. وكُلفت وكالات الأمم المتحدة بالتنسيق مع منظمات المجتمع المدني على أرض الواقع.
يشرح أحد العاملين في المجتمع المدني قائلًا: "أثناء الإغلاق، شعرنا بقيود أشدّ على فضائنا العملاني، وذلك أولاً بسبب قرار الحكومة حصر العمليات بالنشاطات المنقذة للحياة عبر طلب قوائم للمستفيدين/ات، ما يثير إشكاليّات متعلّقة بالحماية، وثانياً لأنّ بعض المانحين عملوا وكأنهم مؤتمنين على الوصول إلى الفضاء العملاني، بدلاً من دعمنا والمساهمة في خلق بيئة أكثر تمكيناً وتسهيل الوصول إلى الميدان".
وفي حين أنّ مثل هذه الممارسات لا تشكل فحسب انتهاكاً لخصوصية المستفيدين/ات يمكن أن تعّرض حمايتهم للخطر، بل تنعكس أيضاً على الفضاء المدني المتقّلص باستمرار في البلاد خلال السنوات المنصرمة مع زيادة التدقيق والحظر و/أو القمع في المجتمع المدني.
علاوةً على القيود التي فرضتها الدولة، تطرّقت بيانات الدراسة ونتائجها إلى دور المانحين الدوليين في تأطير قطاع المجتمع المدني في لبنان. وقد أشار ٧٥% من المستجيبين/ات إلى أنّ التمويل الذي تلقوه خُصِّص لنشاطات ومشاريع وبرامج محددة. وفي حين أنّ التمويل المؤسساتي غير المتعلق بمشاريع معيّنة يقدم مزيداً من المرونة الضرورية خاصةٍ في أوقات الأزمات والاستجابة الفورية، فإن معظم التمويل يرتبط عادةً بمشاريع محددة كثيراً ما تكون لها أطرٌ زمنية محدودة. وهذا يلجم إلى حدٍ كبير تأثير واستدامة التدخلات، وكذلك المنظمات ككل، هذا من ناحية. وهو ما يسهم في زيادة المنافسة بين الجهات الفاعلة المحلية بدلاً من تشجيع التعاون والتضامن بين الجهات الفاعلة في القطاع.
أشار أحد المشاركين/ات في الإستبيان إلى أنّ "المنظمات الكبيرة تلقت أموالاً طائلة، في حين لم تتلق المنظمات غير الحكومية الأصغر أيّ شيء، ما أدّى إلى إغلاق بعضها، أو أنها سوف تغلق قريباً".
من ناحية أخرى، يزيد التمويل المخصص الفجوة بين النشاطات المنفَّذة، والتي تستند في كثيرٍ من الأحيان إلى أولوياتٍ يحددها المانحون، والحاجات الفعليّة على الأرض. تشير البيانات من الدورة الأولى للمسح (انظر هنا) إلى أنّه تم التخطيط للنشاط من دون تقييماتٍ للوضع الراهن تستند إلى الوقائع، إذ إنّ ٦٣% من المشاركين/ات في الاستبيان قاموا بتدخلات ونشاطات بعد انفجار بيروت في الرابع من آب/أغسطس ٢٠٢٠ ولكنّهم لم يجروا أي تقييم للاحتياجات.
عبّر أحد المشاركين/ات في الإستبيان: "عندما بدأنا التدخل مباشرةً بعد انفجار المرفأ، كان تركيزنا كبيراً على السلال الغذائية، بالرغم أنّ كان لدى السكان احتياجات أكثر إلحاحاً مثل تصليح بيوتهم وإعادة بنائها، وبعضهم رفضوا الهبات الغذائية، لكننا لم نستطع تلبية طلباتهم واحتياجاتهم. كان علينا إبراز نتائج لمانحينا، ووضع تقارير متناسبة مع المؤشرات. أثناء الإغلاق، بات ذلك أسوأ وأصبح واضحاً أنّ حفنةً من المنظمات المختارة ستتمكن وحدها من الوصول إلى المستفيدين/ات".
من اللافت أنّ أكثر من ٣٢% من المجيبين/ات وصفوا علاقتهم بمانحيهم بأنها "تعاقديّة" بدلاً من أن تكون علاقة مبنية على "الشراكة المتساوية". وهذا دلالة على أنّ غالباً ما يقتصر دور منظمات المجتمع المدني إلى مجرد تنفيذ لأجندات المانحين، على الرغم من أنّ الجهات الفاعلة المحلية تتمتع عملياً بفهمٍ أفضل للسياق والاحتياجات والأولويات المحلية.
عبّر المشاركون/ات في الإستبيان عن قلقهم من ممارسات المانحين، وقالوا بأنّه "يجب أن تشارك منظمات المجتمع المدني المحلية والوطنية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية لتكون فاعلة حقيقية في الاستجابات على كافة الصعد".
وبالفعل، فإنّ إقصاء الجهات الفاعلة المحلية عن صنع القرارات الاستراتيجية أو مشاركتها الشكلية فحسب في الاستشارات من دون أن تؤخذ مشاركاتها بالحسبان يقيّد الاستجابات والتدخلات التي تقدمها منظمات المجتمع المدني والتي غالبً تُصنَع بشكل غير متوائم مع الاحتياجات الفعلية.
إجمالاً، سلطت الأزمة الحالية والاستجابات الراهنة الضوء على ديناميكيات القوة غير المتكافئة بين منظمات المجتمع المدني المحلية وبين المنظمات الدولية غير الحكومية التي توفر التمويل، ما يؤدي إلى "شراكات" غير متوازنة.
وهذه العوامل تقوّض إلى حدٍ كبير دور المجتمع المدني في قيادة التغيير الديمقراطي، إذ إنها تحصرها في دور تقديم الخدمة والتنفيذ.
صخب ما بعد الأزمة: بين التشظي وازدواجية التدخلات والمجتمعات المحلية المنسية
تميزت الاستجابات الميدانية على أرض الواقع بصخب ما بعد الأزمة، الذي أدى إلى ازدواجية وتشظي التدخلات بدل أن تكون نشاطاتها منظمة وفعالة، ما جعل استهداف بعض المناطق والسكان أقل من اللازم. وقد ذكر المشاركون/ات في استبياننا على نحوٍ متكرر النقص الشامل في التنسيق وازدواجية الخدمات.
شرح أحد المشاركين/ات في الإستبيان قائلاً: "لم نكن مستعدين وحدث نوعٌ من الفوضى ـ لم يكن توزيع الأموال عادلاً. حدث الكثير من التكرار في العمل، فحصل بعض الأشخاص على قدرٍ فائضٍ من الخدمات، في حين أُهمل آخرون".
تبدو البرامج والمشاريع والتدخلات موجهة بصورةٍ شبه كاملة نحو معايير تم تصميمها وتطبيقها في أماكن أخرى، تحت واجب"المحاسبة" والفعالية، وهما مؤشرات النجاح الذين أدّوا في هذه الحالة إلى استبعاد فئات ومجتمعات محلية شديدة الضعف. على سبيل المثال، رأت نسبة كبيرة من المشاركين/ات في الإستبيان أنّ بعض الفئات الهشّة أُهملت في التدخلات، ولاسيما الأشخاص ذوو الإعاقة والمسنون/ات والمهاجرون/ات واللاجئون/ات، والمجتمعات الميم.
علاوةً على ذلك، تظهر البيانات تركيزاً للتدخلات في بعض المناطق مثل بيروت وجبل لبنان، في حين كان استهداف المناطق الأطراف، مثل عكار وبعلبك والنبطية، أدنى بكثير.
وأشار أحد المشاركين/ات في الإستبيان : "لقد منع نقص التعاون والتواصل بين منظمات المجتمع المدني وجود خطة متكاملة ومنظمة للوصول إلى الأفراد والمناطق وتقييم احتياجاتها بأقصى فعالية".
نتيجةً لذلك، وصف كثيرٌ من المشاركين/ات في الإستبيان التدخلات بأنها "فوضوية" و"مبعثرة" و"غير منظمة" و"إقصائية" و"غير فعالة"، مشيرين إلى الحاجة لتنسيقٍ أفضل وآليات لمشاركة البيانات والمعلومات.
التقدم إلى الأمام: إعادة تركيز السجال في العوامل الهيكلية
إضافةً إلى تعيين وفهم التحديات التي واجهتها الجهات الفاعلة في المجتمع المدني أثناء الإغلاق، سعت الدراسة أيضاً لفهم أفكار المشاركين/ات في الإستبيان وتوصياتهم من أجل استجابة للطوارئ أكثر فعالية. ارتبطت التوصيات الثلاثة الرئيسية في الدراسة بما يلي: ١/ تعزيز جهود التنسيق (٢٨%)، ٢/ تطوير خطط إدارة الأزمة وتدريب فرق العمل (٢٠%)، و٣/ تشارك المعلومات والبيانات (١٦%).
من اللافت للانتباه أنّ معظم التوصيات المقترحة ركزت على دور منظمات المجتمع المدني، فأبرزت ميلاً بين الجهات الفاعلة إلى التغاضي عن القضايا البنيوية التي ترسم ملامح السياق المحلي وأدوار ومسؤوليات الجهات الفاعلة الرئيسية في القطاع، من قبل الدولة أو المانحين الدوليين.
في بلدٍ أوكلت فيه الدولة تاريخياً القضايا والحقوق والخدمات الاجتماعية للقطاع غير الربحي وحيث تبدو منظمات المجتمع المدني المحلية وكأنها وقعت في "فخ تنفيذي" (انظر على سبيل المثال بحثنا السابق هنا)، يهدف هذا الموجز إلى إعادة تركيز الحوارات والأبحاث حول المساعدات الانسانيّة في لبنان حول ثلاث أولويات رئيسية:
-
على الجهات الفاعلة في المجتمع المدني أن تستعيد فضائها ودورها. وهذا يتضمن الابتعاد عن التركيز المهيمن على تقديم الخدمات والنشاطات التنفيذية، واستعادة دور تلك المنظمات في وضع السياسات العامة والدفاع عن حقوق الإنسان.
-
على المانحون والمنظمات الدولية أن يتبنوا بشكل فعّال سرديات وممارسات تزيل الطابع الاستعماري للمساعدة وتكرّس محليتها، وتعيد التفكير في مسؤوليتها في تقليص الفضاء المدني والعملاني.
-
على الدولة أن تستعيد مسؤولياتها الاجتماعية وأن تقوم بها، فتقدم الحقوق والخدمات الاجتماعية، ولاسيما عبر برنامج للحماية الاجتماعية، يكون شاملاً ويدوم طيلة الحياة، يحمي كافة المقيمين/ات، ولاسيما أثناء الصدمات خلال الحياة كالجائحات أو الأزمات الاقتصادية.