المراكز البحثية ودورها في صنع السياسة الخارجية المغربية
تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على أدوار مراكز الأبحاث المغربية التي تشتغل في مجال السياسية الخارجية، ومساهمتها في صنع القرار الخارجي وفي صنع المعرفة. اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الوظيفي وقدرات التحليل والوصف لرصد مكانة هذه المراكز في بلورة التوجهات الاستراتيجية وتحديد أهدافها ومجالات اشتغالها، وتعزيز الخبرة التكنوقراطية في دعم توجهات المغرب الرسمية الخارجية، بالارتكاز على محاور الاقتصاد السياسي للبحث وتحولات الأبحاث في مجال العلوم الاجتماعية. فمع بقاء السياسة الخارجية ضمن المجال الخاص والمحفوظ للملك، عملت الدبلوماسية الرسمية على إشراك هذه الشبكة من المراكز في قرارات السياسة الخارجية للتسويق لصورة المغرب خارجياً وخدمة أهداف وتوجهات الدبلوماسية الرسمية، غير أنّ ارتباط هذه المراكز بالسلطة ساهم في خلق نمط يكاد يكون وحيداً وغير متوازن في ما يتعلق بمنتجي المعرفة المرتبطين بالسياسة الخارجية المغربية، وبشبه تغييب للجامعة كفضاء للبحث العلمي.
To cite this paper: Rachid El-Bazzim, Amal El Houasni,"المراكز البحثية ودورها في صنع السياسة الخارجية المغربية", Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, 2021-04-01 00:00:00. doi: 10.28943/CSKC.002.90000
[ONLINE]: https://civilsociety-centre.org/ar/node/71396مقدمة
تحتل مراكز الأبحاث مكانة خاصة في مجال صنع القرار السياسي، حيث تعتمد عليها الدول لتقد يم دراسات وتقارير واستشارات في جلّ الميادين. تعتبر دراسة القضايا والمشكلات التي تواجه الدولة داخلياً وخارجياً وتحليلها من الأدوار الأساسية المنوطة بهذه المراكز، وعلى اختلاف التسميات التي تعطى لها، فإنّها تحيل إلى هيئات أو مؤسسات البحث التي تعرّف بأنها منظمات بحثية أو معاهد منظمة تهدف إلى إجراء بحوث مركزة ومكثفة، وتروم تقديم الحلول والمقترحات للمشكلات بصورة عامة، وفي المجالات السياسية والاستراتيجية والاجتماعية والتكنولوجية بخاصة.
ويشير مصطلح مركز الفكر إلى بنى ذات معالم مختلفة تشمل: الخلايا الإدارية للتفكير المستقبلي، المختبرات شبه الجامعية، مجموعات المصالح، أو الأندية السياسية. وتظل النقطة المشتركة بين هذه المراكز هي تغذية النقاش العام بأفكار "مبتكرة"، تُنشر على شكل مقالات في المجلات، وتقارير، ومذكرات، ومنتديات صحفية، ومداخلات في البرامج التلفزيونية. وتختلف مبدئياً عن جماعات الضغط، حيث لا تهدف مراكز الفكر للدفاع عن مصالح مخفية، بل إلى التعبير عن وجهة نظر الباحثين الجماعية بشكل علني. كما تتميز عن البنى الجامعية أيضاً بالرغبة والحاجة المطلقة إلى نشر أعمالها في الإعلام.
ويعتبر حقل السياسة الخارجية مجالاً خصباً لمراكز صنع الاستراتيجيات، حيث نشأت في العالم الأنكلوسكسوني، كمنظمات شبه حكومية تمارس مهام استشارية في مجالي العلاقات الدولية والدفاع. وهكذا تم إنشاء المعهد الملكي للشؤون الدولية في إنكلترا في العام 1919، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وتطورت الظاهرة في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تعلق الأمر بتطوير عقيدة الردع النووي. كما لعبت منظمات مثل مؤسستي "راند" أو "بروكينغز" دوراً أساسياً إلى جانب الحكومة الأمريكية في صياغة السياسات الخارجية والعسكرية. وبحلول السبعينيات وبدايات الأزمة الاقتصادية، امتد نطاق مؤسسات الفكر والرأي إلى السياسة المحلية، ولاسيما القضايا الاقتصادية والاجتماعية. في فرنسا، تحتل بعض مراكز الفكر حيزاً مهماً في مجال السياسة الدولية، مثل المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI) الذي أنشئ في السبعينيات. وهو يستفيد من الإعانات العامة، لكنّ الجزء الأكبر من تمويله (حوالي 60 بالمئة) يأتي من الخواص، في بلد يتسم بمركزية سياسته، وسيادة ما يعرف بالدولة الاستراتيجية.
وأمام الأهمية التي تحتلها مراكز الأبحاث على المستوى الدولي باعتبارها تمثل دلالة مهمة على تطور الدولة وتقييمها للبحث العلمي واستشرافها لأفاق المستقبل، ومع اختلاف تصنيفات وأنواع هذه المراكز، من حيث تبعيتها للحكومة أو استقلاليتها، فإن الملاحظ أنّ تطور مراكز الأبحاث العربية لم ينضج بعد مقارنةً بمراكز الفكر الغربية) محمود، 2013(.
وانطلاقاً من ذلك، تحاول هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على مراكز التفكير التي تشتغل على السياسية الخارجية المغربية، لمساءلة دور هذه المراكز في إنتاج المعرفة وفي دعم التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية المغربية، في ظل هيمنة الدبلوماسية الرسمية على صنع هذه السياسة باعتبارها مجالاً محفوظاً للملك.
تزامناً مع التطورات التي شهدها الخطاب التكنوقراطي في مجال السياسة الخارجية المغربية خلال السنوات الأخيرة، أنشئ العديد من مراكز التفكير لدعم النظام في سياسته الخارجية، كما هو حال المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية(IRES) الذي أنشئ في العام2007 ، وهو متخصص أساساً في القدرة التنافسية العالمية والسياسة الخارجية ورأس المال غير المادي .وعلى نفس المنوال، يركز المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية (CMIESI) جهوده على دراسة الهيكلة الإقليمية والحكم المحلي. من جانبه، يركز معهد أماديوس(AMADEUS) الذي تأسس سنة 2008 على قضايا التنمية المشتركة والتعاون جنوب-جنوب، في حين يتمحور اهتمام "مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد" (Policy Center for the New South) الذي تأسس سنة 2014 والتابع لمجمع الشريف للفوسفات على إنتاج الخبرة للإسهام في تطوير السياسات العمومية والتوجهات الدولية للمغرب وبقية الدول الأفريقية.
فمن خلال إشراك هذه الشبكة من مراكز البحوث في قرارات السياسة الخارجية، يتم التأكيد على دور الخبرة التكنوقراطية. ونتيجة لذلك، يتناقص باطراد النقاش حول القضايا الخارجية داخل قبة البرلمان، وهي التي تعدّ أقلّ خبرةً في السياسة الخارجية بالمقارنة مع مراكز البحث. يُعهد بهذه السياسة إذاً إلى الخبرة التكنوقراطية التي تخضع لمراقبة الدبلوماسية الرسمية.
كما أنّ ارتباط هذه المراكز بالسلطة ساهم في خلق نمط يكاد يكون وحيدا ًوغير متوازن في ما يتعلق بمنتجي المعرفة المتعلقة بالسياسة الخارجية المغربية، وشبه تغييب للجامعة كفضاء للبحث العلمي الرصين. بحيث لا يقتصر الصراع بين الفاعلين على استقطاب الموارد وتنظيم أسس البحث، وإنما يمسّ تعريف ما هو علمي وما هو غير علمي، ما ينتمي إلى المعرفة الشرعية وما يتم اقصاؤه عنها.
فقد تم الترويج لقصور المعرفة بالسياسة الخارجية بشكل متعمد منذ سنوات العشرية الأولى من الألفية الثالثة. منذ ذلك الحين، يُفضَّل توظيف المراكز البحثية الاستراتيجية والاقتصادية والدولية. كما أنّ ملاحظة حضور الفاعل السياسي في الحقل العلمي لا يطرح تساؤلات عن الحيادية فحسب، بل كذلك عن الشروط العلمية، أو ببساطة عن موضوعية المنهج العلمي. فإذا كان التمييز الجذري بين نمطي الباحث والتكنوقراطي (الخبير) يبدو متجاوَزاً، فذلك لأنّ أغلب الباحثين يتأرجحون أثناء مسيرتهم المهنية بين هذين المجالين لإنتاج المعرفة. إذ إنّ البحث عن الدوافع الرئيسية للتمسك بالخبرة و"انتشار البحث حسب الطلب" يمكن أن يحملا بين طياتهما الرغبة في عدم تسييس حقل السياسة الخارجية، وجعله حكرا ًعلى جهة فاعلة وحيدة، مقابل إقصاء فاعلين آخرين.
يتضح مما سبق أنّ هنالك حاجة لتقييم توظيف المراكز البحثية في حقل السياسة الخارجية المغربية. تتفرع عن إشكالية الموضوع مجموعة من التساؤلات الفرعية: ما أهم المناهج والممارسات التي تعتمدها؟ هل من شأن طالبي البحوث التأثير في موضوعيتها واعتماد وجهات نظر معينة؟ كيف يوظف الفاعل السياسي ما هو علمي لخدمة أجندته؟ وهل البحث في تخصص السياسة الخارجية المندرج في إطار زمني أطول يمكن أن يضر بهذا المنطق، أم أنّه سيظل حبيس جدران الجامعة التي أنتجته؟ من جانب آخر، هل هنالك ترابط وتغذية راجعة بين مجالات إنتاج المعرفة هذه، وكيف يستطيع الباحثون الربط بينها عملياً؟
نسعى في هذه الدراسة إلى بلورة مقارَبة تأخذ بالمنهج الوظيفي من خلال دراسة وظائف المراكز البحثية وأدوارها في صنع السياسة الخارجية المغربية، إضافة إلى قدرات الوصف والتحليل لمعالجة هذا الموضوع، وذلك انطلاقاً من رصد السياقات التي عرفت نشأة المراكز البحثية المذكورة وتكاثرها، مرتكزين على محاور الاقتصاد السياسي للبحث وتحولات الأبحاث في مجال العلوم الاجتماعية.
ولهذا سنحاول مقاربة هذا الموضوع وفق محورين؛ نعالج من خلال المحور الأول (I) تعزيز دور مراكز الفكر كنمط لإنتاج المعرفة ومدى مساهمتها في صنع السياسية الخارجية المغربية، على أن نخصص المحور الثاني (II) للجامعة المغربية وأسباب تراجع مكانة العلوم الاجتماعية فيها.
I- تزايد الطلب على مراكز البحث وصنع السياسة الخارجية المغربية
ظهرت في السنوات الأخيرة في المغرب مراكز فكر كثيرة، سعت لإغناء النقاش العمومي حول السياسات العامة، كما هدفت إلى إضفاء نوع من الحداثة على مؤسسات البلد وثقافته السياسية. ويمكن تفسير هذه الدينامية برغبة الفاعل السياسي المغربي الحثيثة في تعزيز صورة انخراطه في مسار الحداثة السياسية المرتبط بالقيم الديمقراطية وفكرة الحرية. فمنذ انهيار المعسكر الشيوعي، لم يعد النقاش يدور حول "الإيديولوجيات" بقدر ما يُعنى بالأداء والتنظيم الديمقراطي. وهكذا يلاحظ توسع نطاق مراكز الفكر، وهي تعمل من أجل صياغة مقترحات ملموسة وواقعية للتأثير في صانعي القرار.
ومع تعقد قضايا السياسية الخارجية المغربية وتعددها، برزت حاجة الدبلوماسية الرسمية المغربية إلى منظمات بحثية تسوّق من خلالها توجهاتها الاستراتيجية وتخدم القضايا الأساسية للسياسية الخارجية، سواء تعلق الأمر بقضية الصحراء التي شكلت منذ الاستقلال أولى أولويات السياسة الخارجية المغربية والتسويق لمقترح الحكم الذاتي، أم بتأييد توجهات المغرب الخارجية ولاسيما الاقتصادية منها، والتي برزت مع توجه المغرب لتعزيز العلاقات المغربية-الأفريقية.
قبل تحديد أدوار هذه المراكز في إنتاج المعرفة ومدى تأثيرها في صنع القرار الخارجي، كان لزاماً تسليط الضوء على أهم المراكز المغربية التي تشتغل في مجال السياسية الخارجية وأهدافها الأساسية. فمع صدور توصيات تقرير 50 سنة من التنمية البشرية في المغرب وآفاق سنة 2025، القاضية بتنظيم اليقظة الاستراتيجية واستشراف آفاق المستقبل حول مراكز اليقظة والذكاء الاقتصادي، وإحداث مراكز فكر مستقلة تغطي أوسع نطاق ممكن من حيث مجالات الخبرة (تقرير الخمسينية، 2006)، تأسس عدد من المراكز الفكرية المهتمة بالسياسية الخارجية، كما هو الأمر بالنسبة للمعهد المغربي للعلاقات الدولية سنة 2004 الذي تأسس كمركز فكري يهتم بأبحاث العلاقات الدولية، مع التركيز بشكل خاص على منطقة دول المغرب العربي والبحر الأبيض المتوسط. وتتمحور مشروعاته البحثية حول التعاون مع شركاء مغاربة ودوليين، وذلك بشأن عدد كبير من القضايا مثل المساواة بين الجنسين، والهجرة، والتجارة، والسياسة المالية، والمؤسسات الصغرى والمتوسطة والسياسات الاقتصادية. ويرتبط المركز بشخص رئيسه جواد كردودي الذي تخرج من المدرسة العليا للدراسات التجارية بباريس سنة 1965، ليشتغل بعد ذلك في مكتب حكومي للصادرات ثم في السلك القنصلي.
وفي آذار/مارس 2007، تأسس "المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية" الذي يهتم بالقضايا الاستراتيجية والدبلوماسية والأمنية، والوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ويهدف هذا المركز الذي يحظى بصفة جمعية ذات نفع عام إلى المساهمة في فهمٍ أفضل للقرارات والإجراءات المتخذة في ميداني السياسة الخارجية والأمن. ومساهمة منه في إنتاج المعرفة وأمام ندرة الأبحاث الدقيقة في مجال السياسة الخارجية، أصدر المركز "الدليل المغربي للاستراتيجية والعلاقات الدولية" سنة 2013 )عزوزي، (2012 الذي شكل مرجعاً لتوفير المعلومات عن المغرب والعالم العربي وأهم الأحداث في العالم. وقد عمل المركز على تحليل تلك المعلومات والأحداث تحليلاً علمياً وعلى استقائها من مصادرها الموثوقة، ليتيح المجال لصانعي القرار في المغرب وللباحثين والمفكرين والاقتصاديين الرجوع إلى هذا الدليل لتبين ما حدث طيلة السنة ودراسة كل ذلك بمنهجية نقدية واستشرافية.
يعتبر " المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية" الذي تأسس سنة 2007 من المراكز الأساسية التي تساهم في تنوير صنع القرار الاستراتيجي نظراً لوضعيته التي تميزه عن باقي المراكز. حيث أنّ الملك هو الذي يعيّن مدير المعهد (ويجمع المدير الحالي بين صورة التكنوقراط والقرب من دوائر القرار). ويقدم المعهد نفسه على أنّه يساهم في تنوير صنع القرار الاستراتيجي، باعتبار أنّ مهامه تتجلى في إجراء دراسات وتحاليل استراتيجية حول القضايا التي يحيلها إليه الملك. كما أنّه يعمل على فحص سير علاقات المغرب الخارجية. فقد شكلت الرسالة الملكية الموجهة إلى ندوة السفراء التي نظمتها في الرباط وزارة الشؤون الخارجية والتعاون من 30 آب/أغسطس إلى 1 أيلول/سبتمبر 2013 مرجعاً للدراسات والتقارير التي أنجزها المعهد، ودعت المعهد إلى تركيز جهوده في مجال علاقات المغرب الخارجية والدبلوماسية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وذلك لتمكين وزارة الشؤون الخارجية والتعاون من التحليلات والأدوات المفاهيمية اللازمة، من أجل استيعاب التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم واستباقها بشكل أفضل.
وفي هذا الإطار، أُنجز العديد من الدراسات المتعلقة بقدرة المغرب الجاذبة (القوة الناعمة)، أو التي تتطرق إلى علاقات المغرب مع دول الجوار (إسبانيا، الجزائر، موريتانيا)، ومع الدول التي تشترك مع المغرب في الانتماء الجغرافي (أفريقيا والعالم العربي). وقد أجرى المعهد أيضاً دراسة حول علاقات المغرب مع دول أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وكذلك مع دول مجموعة البريكس.
كما أولى المعهد اهتماماً خاصاً لقضية الدبلوماسية، حيث أنجز خلال سنة 2015 تقريراً حول الدبلوماسية المناخية، ودراسات متعلقة بالدبلوماسية الاقتصادية والدبلوماسية الثقافية. وتفاعلاً مع توجهات المغرب الخارجية لتعزيز العلاقات جنوب-جنوب، صدر تقرير عن المركز سنة 2016 بعنوان "بانوراما المغرب في العالم. العلاقات الدولية للمملكة"، دعا إلى جعل التعاون جنوب-جنوب محدِّداً لانتشار السياسة الخارجية للمملكة وإلى تفضيل مقاربات التعاون الثلاثي التي تجمع المغرب والدول الشريكة من جهة، وأفريقيا وأوروبا من جهة أخرى.
ويبين فحص التقارير الصادرة عن المعهد أنّ المشاركين في أبحاثه يتمتعون بهامش مهم للتعبير عن أفكارهم. ففي نهاية المطاف، تصبح مسألة الاستقلالية ثانوية، لأنّ المعهد يعمل تحت إمرة الملك، وتقتضي مهمته المساعدة والتوجيه في اتخاذ القرارات الاستراتيجية. ويبدو أنّ الأمر مستلهم من منهج الراحل الحسن الثاني عندما أنشأ مجموعة الأربعة عشر G14، المكونة من باحثين وخبراء، للاستشارة في القضايا الاستراتيجية التي تهم المغرب، بل إنّ هذه الشخصيات قادت مرحلة انتقال العرش ورافقت عهد الملك محمد السادس إلى اليوم. في الواقع، لا تزال السياسة الخارجية تدخل ضمن نطاق المجال المحفوظ للملك (Fernandez-Molina, 2015)، حيث يتسم مسلسل صنع القرار في قضايا السياسة الخارجية بهيمنة الملك الرمزية والعملية. كما عُمل بعد 2011 على تحديد أولويات "البعد الاقتصادي" للسياسة الخارجية وتحديث وزارة الشؤون الخارجية، بما في ذلك تشكيل نخبة تكنوقراطية جديدة وتجديد السفراء، وإرساء دبلوماسية موازية.
في ضوء ذلك، يلعب معهد أماديوس (2008) دور واجهة الانفتاح. حيث ينظم سنوياً مؤتمراً يجمع صناع القرار والخبراء. ويتعلق الأمر بمنتدى ميديز (MEDays) الذي يقدم نفسه كمنصة لتبادل الخبرات والأفكار بين بلدان الجنوب، لزيادة نفوذ المغرب دولياً. ويعوّل المعهد على رأسمال العلاقات لدى رئيسه إبراهيم فاسي الفهري، وكان والده يدير الدبلوماسية المغربية لمدة طويلة قبل أن يعيَّن في الديوان الملكي. وفي سنة 2019، عزز المركز قربه من مراكز القرار، حيث استحوذت عليه مجموعة أكوا المملوكة لعائلة عزيز أخنوش، الوزير ذي النفوذ السياسي والاقتصادي القوي.
إلى جانب المراكز السالفة الذكر، تأسس مركز السياسات للجنوب الجديد، وكان يدعى سابقاً مركز سياسات المكتب الشريف للفوسفات، في أيار/مايو 2014 تحت إدارة كريم العيناوي القادم من البنك الدولي، وقد أثبت مكانته كواحد من أكبر عشرة مراكز أبحاث في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى جانب مراكز مرموقة مثل مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في لبنان ومعهد بروكينجز في قطر ومركز الأهرام المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية[1]. ولا بد من القول إنّ مركز الفكر المغربي ينشط بشكل كبير على الصعيدين الوطني والدولي في إقامة علاقات مع أبرز نظرائه في العالم.
جدير بالذكر أنّ من بين مهامه تعزيز تبادل المعرفة والمساهمة في إثراء التفكير في القضايا الاقتصادية والعلاقات الدولية، كما هو وارد في موقعه على شبكة الإنترنت. وهو يتناول الأبحاث من منظور دول الجنوب بشأن القضايا الحاسمة والاستراتيجية، الإقليمية والعالمية، التي تواجه البلدان النامية والناشئة.
ويشير احتضان المكتب الشريف للفوسفات لهذا المركز إلى أهمية البعد الاقتصادي في السياسة الخارجية المغربية بعد قضية الصحراء التي تعتبر محركها الأساس. فالحاجة إلى تقليل الاعتماد الاقتصادي على أوروبا هي التي تدفع المغرب إلى البحث عن مناطق تأثير ونفوذ في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث يلعب مكتب الفوسفات دورا ريادياً في تمويل مشاريع استثمارية كبرى[2].
من خلال استعراض أدوار أهم المراكز التي تشتغل في مجال السياسة الخارجية، يمكن القول إنّ مراكز الدراسات والأبحاث في المغرب، رغم قلّتها وحداثة نشأتها، تظل تابعة للتوجهات العامة التي ترسمها الدولة، ويفسر هذا التوجه توظيف تكنوقراط لإدارة هذه المراكز. فمن شأن احتضان مراكز الفكر واحتكارها للمعرفة الشرعية في مجال السياسة الخارجية أن تكون له تأثيرات مهمة على استقلالية الثقافة الأكاديمية، بحيث يهدف تعيين ممثلي الشركات في مجالس الإدارة إلى تحديد كيفية إنفاق الميزانيات المرصودة للأبحاث وتخصيصها. وهو ما يزيد من عدم وضوح الحدود بين القيم العامة والمصالح التجارية، حيث يتراجع الحافز العلمي للبحث عن الحقيقة أمام دوافع أخرى. فالتزام الباحث بشروط العقود يجعل منه خبيراً ذا آفاق موضوعة سلفاً، مستجيباً لقيود هيئات التمويل. وهو ما يتنافى مع فلسفة العلوم الاجتماعية التي تتمحور حول الإنسان وقيم الإنسانية الكبرى ونظريات العلم، والتي تفرض على الباحث هويته، وتعريف نفسه بالصلة مع المجتمع العلمي ككل. لذلك يمكن النظر إلى مراكز الفكر على أنها صوت الرؤى المهيمنة(Bourdieu & Boltanski, 2008) . ولذلك يتم استنكار تواطؤها مع دوائر السلطة السياسية والاقتصادية، ما يؤدي إلى إضفاء الشرعية العلمية على الخيارات السياسية التي اتخذها بالفعل صانعو القرار، حتى قبل سلك مسارات تفكير معينة.
وفي المقابل، تعمل الجهات الحكومية على تحديد اتجاه الأبحاث. حيث ترتبط سياسة المغرب الأفريقية خارجياً بأنشطة مراكز الفكر. ونشير هنا إلى أنّ التعاون الثنائي مع الدول الأفريقية ارتبط بمواقفها من قضية الصحراء، ما قلل من قدرة المغرب على العمل في شرق أفريقيا وجنوبها. ثم ظهرت بعد ذلك أهمية فصل التعاون الأفريقي عن مواقف الدول من قضية الوحدة الوطنية، حيث لوحظ أنّ التقارير التي صاغتها مراكز الفكر القريبة من دوائر القرار منذ 2014، مثل معهد أماديوس والمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، نحت هذا المنحى. كما أنّ البعثة الملكية التي زارت الدول الأفريقية، ومهدت لعودة المغرب لمنظمة الاتحاد الأفريقي، ضمت إبراهيم الفاسي الفهري (معهد أماديوس) إلى جانب مستشارين ووزراء سيادة وأعضاء في المجتمع المدني. وعلى صعيد آخر، فإنّ أنشطة هذه المراكز تحظى بتغطية إعلامية مهمة من وكالة المغرب العربي للأنباء التي تمثل وجهة النظر الرسمية وتغطي أغلب الفعاليات. والواقع أنّ ذلك يؤشر إلى أنّ هذا الفضاء الفكري للنقاش المستقل وإنتاج الأفكار أصبح ضيقاً، مدفوعاً بتراجع دور الأحزاب كحاضنة للأفكار في الستينات والسبعينات، وضعف الجامعة التي لا تزال تعاني من سياسات احتوائهاVermeren, 2016) ).
إنّ الغرض من مراكز الفكر ليس مجرد إنتاج الأفكار من أجل تحقيق فهم أفضل للعمليات السياسية، بل ترجمة هذه الأفكار إلى مقترحات ملموسة، ووضعها على جدول الأعمال السياسي بحيث تصبح تدابير أو قوانين. وبهذا المعنى، تلعب مؤسسة الفكر دوراً وسيطاً بين الفكرة والقرار السياسي. وعلى هذا النحو، تميل مراكز الفكر إلى الاضطلاع بوظيفة صياغة البرامج، وهي وظيفة يفترَض أن تتولاها الأحزاب السياسية. حيث تلجأ هذه الأخيرة اليوم إلى التعاقد مع مكاتب الدراسات الخارجية لوضع برامجها، بدل استلهامها من روح النضال. كما يعهد المنتخبون الذين يشاركون أساساً في التنافس على السلطة إلى الخبراء بمهمة وضع برنامج عملهم. ويرى كثيرون في ذلك مؤشراً على أزمة الأحزاب السياسية، وعلى نطاق أوسع أزمة الديمقراطية (Mény, 2019). لأنّ "ديمقراطية الخبراء" تُشجب باسم استقلال المعرفة ولكن أيضاً باسم مشاركة الشعب في الحياة السياسية. ووفقاً لديفيد إستلوند، فإنّ سطوة الخبراء على المعرفة العلمية تمثل خطراً، يتجلى في احتكار ومصادرة الآراء والأفكار المستقلة. ما ينتج عنه تأسيس نخبة جديدة تدعي احتكار المعرفة والقوة، ويستبعد بقية المواطنين من المشهد السياسي (Estlund, 2011).
إنّ إنشاء مراكز الأبحاث المذكورة وتأثير مصالح الشركات والجهات الحكومية في تنظيم بنى البحث العلمي وبرامج البحوث يترجم عولمة المسارات البحثية في الأوساط الأكاديمية، حيث إنّ ضخ الأموال الخاصة وتوجيهها لأهداف معينة يؤثّر في وضع الجامعة كمؤسسة عامة ومرفق عمومي يساهم في النهوض بالتعليم العالي والبحث العلمي. ولذلك، أصبحت منظومة البحث تتبلور أكثر فأكثر خارج العلم، فالتنافس حول المخصصات المالية للمشاريع يؤدي إلى تفتيتها، أي تقسيم الأبحاث إلى أسئلة وأجوبة قصيرة المدى زمنياً ومحدودة للغاية وقابلة للتقييم. ويعزز هذا المنطق الدخيل على حقل العلم يعزز الحوافز القصيرة الأجل فضلاً عن التركيز على الكم، ما يدفع بالعلم إلى حدود قدراته نظراً لمضاعفة الطلبات والخبرات.
II -تهميش دور الجامعة و تراجع مكانة العلوم الاجتماعية
منذ انتهاج سياسات تحرير السوق النيوليبرالية في أوائل الثمانينيات، أصبحت الجامعة أكثر فأكثر موضوعاً لمبادرات الإصلاح المتتالية، مع التركيز المتزايد على قابلية توظيف الخريجين بدل احتضان الحركات الداعمة لقضايا الحراك الاجتماعي والمرفق العمومي، والمعتمدة على منهجيات النقد الفكري. وعلى ضوء ذلك، جرت التضحية بالمبادئ الأساسية التي تحكم الجامعة كفضاء لحرية البحث يساهم في الصالح العام والجدلية العلمية والأصالة والتفكير الناقد، لتطوير سوقٍ للاستشارة يلجأ إلى خدمات الخبراء، أو عبر خلق هياكل خارج الجامعات تمارس النشاط البحثي(Giroux, 2002) . وقد هُيئ لذلك بالترويج في المنابر الإعلامية ذات الطابع الرسمي للأزمة البنيوية للجامعة المغربية وعدم انسجام المعرفة المدرّسة في الجامعات مع متطلبات السوق. كما أنّ مشاهد الاعتصامات وإحباط هيئة التدريس غذت الشعور لدى الفاعلين السياسيين بأّن استمرار الجامعة كساحة للنضال وكمعقل للمعارضة الفكرية يعمق الإشكالات الاجتماعية، وبأنّ اعتماد المسارات المهنية والشهادات الموجهة للسوق يعتبر مفيداً للنخبة الحاكمة، لضبط وتوجيه توجهات الطلاب والباحثين على حد سواء. وفي ذات السياق، تشير الإحصائيات إلى أنّه على الرغم من أنّ المغاربة ما زالوا يمثلون العدد الأكبر من الطلاب الأجانب في فرنسا (11.8بالمئة من إجمالي عدد الطلاب الأجانب في العام2014 )، إلا أنّهم ينتسبون بشكل متزايد إلى مدارس التجارة والهندسة والإدارة بدلاً من العلوم الإنسانية أو الاجتماعيةCampus France, 2015) ).
من الواضح أنّ كثيراً من المثالب تعتري البحث العلمي وموارده المالية، حيث أنفق المغرب حوالي .70 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على البحث العلمي سنة 2016، وهي ميزانية هزيلة بمقياس المعايير الدولية(IRES, 2019) . كما أنّ الميزانية المخصصة لمشاريع البحث في مجال العلوم والتقنيات من المركز الوطني للبحث العلمي والتقني سنة 2013 تفوق عشر مرات التمويل المخصص لمشاريع البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية سنة 2018 (CNRST, 2020).
وتفاقم هزالة التمويل النقص في المختبرات الجادة والمعدات المسخّرة للبحث، وكذلك في المجلات العلمية الرصينة. كما تؤكد تكلفة نشر الكتب والوضعية السيئة لمكتبات الجامعة على تهميش دور الجامعة وإجهاض المبادرات البحثية، حيث يضطر كثير من أعضاء هيئة التدريس للذهاب إلى المكتبة الوطنية في الرباط أو إلى مؤسسة الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود في الدار البيضاء للحصول على المراجع والمطبوعات.
ولعل من المناسب أن نشير إلى أنّ تقرير "البحث العلمي في المغرب" الذي أنجزه معهد البحث من أجل التنمية الفرنسي سنة 2007 خلص إلى أنّ إنتاج أبحاث العلوم الاجتماعية يعتمد على جهود الباحثين الفردية، بدل الاشتغال ضمن فرق بحث منظمة. كما أنّ الأساتذة البارزين في مجال البحث العلمي يهملون تكوين الأجيال الصاعدة من الطلبة الباحثين، مفضلين التوجه نحو خدمات الاستشارة لقاء مقابل مادي، لتلبية حاجياتهم الوظيفية والخاصة ولتوفير موارد العيش والرفاه لأسرهم، ما يعمق الانفصام بين جهود التفكير والفضاء الجامعي المبني على المساواة والمعرفة للجميع. كما أنّ ضخامة الالتزامات التدريسية واكتظاظ المدرجات بالطلبة يحدّان من مردودية هيئة التدريس، ويعيقان إجراء الأبحاث ونشرها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ محاور اهتمام باحثي العلوم الاجتماعية ترتبط بـعدد محدود من الموضوعات التي يتم تناولها عادة في المؤتمرات والندوات: الحوكمة، التنمية، النوع الاجتماعي، السياسات العمومية، المجتمع المدني وحقوق الإنسان. والواقع أنّه منذ التسعينات، همشت الدراسات الأكثر تعقيدًا والمتعددة التخصصات، وأهمل تمويل العلوم الاجتماعية (Kleiche-Dray, 2007). وفي المقابل، يحيل إنشاء الجامعات الخاصةENSSUP, 2020) )، كما هو حال جامعة محمد السادس المتعددة التخصصات التقنية بابن جرير، إلى تحويل التعليم، وفق نطاق السوق، نحو المقاولة والابتكار والبعد الأفريقي للمغرب من بين مجالات أخرى. كما تستقطب هذه الجامعة الخاصة مجموعة من الباحثين من مختلف الجنسيات وتبرم اتفاقيات مع مؤسسات مرموقة. غير أنّ انتقائيتها وتبعيتها للقطاع الخاص، من شأنهما أن يعززا نخبوية التعليم وازدواجيته (تعليم النخبة وتعليم الطبقات المسحوقة) التي بزغت في فترة ما بعد الاستعمار (Vermeren, 2002)، بدل إرساء المساواة والاستقطاب المفتوح.
كما أنّ خصخصة البحث العلمي والافتقار إلى التمويل اللازم للأبحاث الجامعية العمومية قد حدثا بالتوازي مع الانتشار الكبير للمعاهد المهنية الخاصة. وقد بُرّر ذلك بجودة التدريس مقارنة بالجامعات العمومية، لكن الملاحظ أنّ المؤسسات الخاصة دائماً ما تفتقر هي أيضاً إلى برامج أبحاث واضحة، باستثناءات معدودة. إنّ منطق هذا النموذج هو منطق اقتصادي في الأساس. وهو ينظر إلى المعرفة على أنّها رصيد اقتصادي نادر، له تكلفة فردية واجتماعية وعوائد، ويعاملها أساساً باعتبارها "سلعة" في "اقتصاد المعرفة"، حيث تنتَج المعرفة وتنشَر لأغراض اقتصادية، وتسخر لخدمة القدرة التنافسية للمنشآت الاقتصادية، ما يؤدي إلى إعادة تنظيم شاملة لإنتاج ونشر المعرفة وفقاً لمعيار السوق ومنطق الشركة. إنّ الأولوية المعطاة للبحث التطبيقي والمسارات المهنية، وكذلك التركيز المتزايد لسياسات التدريب والتعليم العالي على التسويق والمعلوماتية والتدبير الإداري، يؤديان أيضاً إلى التركيز على المجالات ذات الأهمية القصيرة المدى (تغليب المصلحة الفورية). ويمكن القول إنّ واحدة من أهم المشكلات الناتجة عن خصخصة مراكز البحث تتجلى في أنّ الأبحاث المنتجة توفر بيانات محدودة ليس لها مرجعيات وأطر نظرية، تستطيع توليد أفكار وسياسات بديلة(Cohen, 2014) .
إنّ اعتماد اتجاهات خصخصة التعليم العالي والبحث العلمي ليست حكراً على المغرب. ففي معظم دول العالم، يشهد البحث في العلوم الاجتماعية تحولات جذرية في ظل "الروح الجديدة للرأسمالية" (Boltanski & Chiapello, 1999) والتي تُظهر مدى هيمنة الحقلين الاقتصادي والسياسي. فسياسات البحث التي تضعها الجهات الحكومية ومؤسسات التعاون الأجنبية تعكس اهتمامات الممولين الدولية والتجارية. ومن ثم، فقيام الجامعة بدورها الاجتماعي باستقلالية رهين بتقلبات السياسة الدولية أيضاً. كما أنّه يتعزز في منطقة الشرق الأوسط الافتراض بنهاية الجامعة كفضاء عمومي (Hanafi, 2012). حيث يطغى النموذج السياسي على حوكمة الجامعات العربية بشكل عام وتنحسر الحريات الأكاديمية وتضيق آفاق المشاركة، وتتعثر سبل توليد الأفـكـار الجديدة الـضـروريـة للتغيير الاجـتـمـاعـي (الأمين، 2018).
في ظل سياق يتميز بضعف الاهتمام بالأبحاث في العلوم الاجتماعية، حاول المركز المغربي للعلوم الاجتماعية (CM2S) ، التابع لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، إرساء مبادرات بحثية ميدانية أكاديمية، مستفيداً من تجربة القائمين عليه ومن شبكة العلاقات التي ينسجونها مع دوائر القرار داخل البلاد وخارجها. حيث يعمل بالشراكة مع منظمات دولية مثل البنك الدولي ومنظمات غير حكومية ومؤسسات دولية، مثل مؤسسات التعاون الألمانية (هانس ساديل، كونراد أديناور وفرديرش آيبرت...). وبدوره يعتمد مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط على إمكاناته البشرية والمادية الذاتية، إذ يشتغل بفضل فريق يضم حوالي 50 من الباحثين والأساتذة على نهج أوسع يشمل المجتمع المدني وحقوق الإنسان. أمّا المعهد الجامعي للبحث العلمي في الرباط، فيركز بشكل أكبر على الهجرة والعلاقات الدولية، ويعمل على إصدار النشرة الاقتصادية والاجتماعية ذات التاريخ الطويل في العلوم الاجتماعية. كما تستند استراتيجية المركزين إلى شبكة من الشركاء الأوروبيين ومن وكالات التنمية.
وهنا لا بد من بيان أنّ تداخل محاور البحث بين مراكز البحث والمنظمات الدولية يؤدي إلى اعتماد دائرة ضيقة من الباحثين، تشتغل في الوقت ذاته بالتدريس، وتقدم المشورة للجهات الحكومية، وترتبط بمؤسسات التعاون الدولية، ما يجعل غالبيتهم باحثين "تحت الطلب". وهذا أمر يفضي إلى إضفاء الشرعية على التوجهات الحكومية، وعلى خيارات النخب الإدارية.
خاتمة:
من خلال التطرق إلى أدوار مراكز البحث بالمغرب في إنتاج المعرفة، يمكننا القول مبدئيا إنّ واقع هذه المراكز يعبّر عن واقع البحث العلمي والمعرفي في المغرب، وهو واقع يشكو خصاصةً في الحرية والاستقلالية. ذلك أنّ جلّ المراكز التي تشتغل في مجال السياسة الخارجية تتلقى توجيهات من الدبلوماسية الرسمية باعتبار أنّ مجال السياسة الخارجية المغربية يظل مجالاً خاصاً ومحفوظاً للملك، لتنحصر أدوار هذه المراكز في خدمة توجهات الدبلوماسية الرسمية ومساندتها وخلق نمط وحيد من المعرفة. وبإشراك هذه المراكز في قرارات السياسة الخارجية، يتم التأكيد على دور الخبرة التكنوقراطية التي تخضع لمراقبة الدبلوماسية الرسمية. إلى جانب الإشكالات التي تعتري عمل مراكز البحث في المغرب، تعرف الجامعة المغربية هي الأخرى عدة معيقات ساهمت في تهميش دورها في إنتاج المعرفة، وهو دور يعتمد على جهود الباحثين الفردية، بدل الاشتغال ضمن فرق بحث منظمة. كما أنّ خصخصة البحث العلمي والافتقار إلى التمويل اللازم للأبحاث الجامعية العمومية عاملان ساهما في إنتاج معطيات مجردة من المرجعيات والأطر النظرية، القادرة على توليد أفكار وسياسات بديلة.
وفي الختام، نستعرض أهم النتائج التي توصلنا إليها:
1- إنّ توظيف مراكز الفكر في سياق السياسة الخارجية بالمغرب يتمحور أساساً حول محاور رئيسية هي: رغبة الفاعل السياسي المغربي الحثيثة في تعزيز صورة انخراطه في مسار الحداثة السياسية؛ السعي لاعتماد الدبلوماسية الرسمية المغربية على منظمات بحثية تسوّق من خلالها توجهاتها الاستراتيجية في ظل تعقد قضايا السياسية الخارجية المغربية وتعددها؛ ضبط ومراقبة شروط الإنتاج المعرفي في هذا المجال لتعزيز هيمنة الفاعلين المركزيين، وتعزيز أولوية المواضيع التي ينبغي التطرق لها.
-2إنّ استغلال هذه المشاريع لن يحول دون تعزيز استمرارية هيمنة الملك الرمزية والعملية على حقل السياسة الخارجية. غير أنّ هذه الاستمرارية تترافق بمجموعة من الإجراءات الهادفة إلى إعادة ترتيب وتحديد الأولويات وبالحاجة إلى التعامل مع مستويات جديدة من واجهات الانفتاح.
-3 يشير تزايد التمويل الخاص للعديد من هذه المراكز من طرف شركات مغربية كبيرة (كما هو الأمر بالنسبة لتمويل شركة اكوا القابضة لمعهد اماديوس) إلى أهمية البعد الاقتصادي في السياسة الخارجية المغربية في عهد الملك محمد السادس، وإلى رغبة الممولين في المساهمة والتأثير في صنع القرارات الاستراتيجية، بما يلائم الطموحات الاقتصادية للأطراف الممولة.
-4 إنّ إنشاء مراكز الأبحاث المذكورة وتأثير مصالح الشركات والجهات الحكومية على تنظيم مؤسسات البحث العلمي وبرامج البحوث يعكس تهجين المسارات البحثية، حيث يشهد وضع الجامعة كمؤسسة عامة انتكاسة ملحوظة في النهوض بالتعليم العالي والبحث العلمي. حيث أدت سلطوية النظام، ورغبته في إسكات أصوات المعارضة والتخلص من المطالب الاجتماعية لخريجي الجامعات، إلى التركيز المتزايد على المسارات المهنية للتدريب وإقامة مؤسسات خارج الجامعات تمارس النشاط البحثي، بدل احتضان منهجيات النقد الفكري.
-5 يتضح من خلال هذه الورقة أنّ منطق سياسات البحث واقتصاداته يرتبط بحركة عالمية تترجم هيمنة التوجهات النيوليبرالية في العالم بأسره. ومن ثمّ، فقيام الجامعة بدورها الاجتماعي باستقلالية رهنٌ بتقلبات السياسة الدولية أيضاً. وبالطبع، فإنّ تحقيق ذلك يمر عبر تقديم البراهين لقوى المجتمع الحية بأنّها فاعل أساسي، لا يقتصر دورها على تزويد مراكز البحث خارجها بالموارد البشرية.
المراجع الببليوغرافية:
- I المراجع العربية
خالد وليد محمود، 2013. دور مراكز الأبحاث في الوطن العربي: الواقع الراهن وشروط الانتقال إلى فاعلية أكبر. الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الرابط:
https://www.dohainstitute.org/ar/lists/ACRPSPDFDocumentLibrary/document_4335EE7A.pdf
عبد الحق عزوزي، 2012. الدليل المغربي للاستراتيجية والعلاقات الدولية، فاس، المركز المغربي المتعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية.
عدنان الأمين، 2018. الجامعات العربية وتحديات التغير الاجتماعي، مجلة عمران، العدد 26، ص. 61- 84
اللجنة المديرية، 2006. [تقرير الخمسينية]: المغرب الممكن: إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك. الدار البيضاء: دار النشر المغربية.
II -المراجع الأجنبية
Boltanski Luc & Chiapello Ève, 1999. Le nouvel esprit du capitalisme, Paris, Gallimard (NRF Essais).
Bourdieu Pierre & Boltanski Luc, 2008. La Production de l'idéologie dominante, Paris, Raisons d'agir/Demopolis.
Campus France, 2015. Les notes, Septembre 2015, URL: https://ressources.campusfrance.org/publications/notes/fr/note_14_hs_fr.pdf
CNRST, CNRST en chiffres, 25 Juillet 2020, URL: https://www.cnrst.ma/index.php/fr/cnrst/a-propos/cnrst-en-chiffres
Enseignement Supérieur et de la Recherche Scientifique (ENSUP), 2020. Liste des universités privées,
Cohen Shana, 2014. “Neoliberalism and Academia in Morocco”, British Journal of Middle Eastern Studies, n°41, p. 28-42
Estlund David M., 2011. L'autorité de la démocratie : une perspective philosophique, Paris, Hermann
Fernandez-Molina Irene, 2015. Moroccan Foreign Policy under Mohammed VI, 1999-2014, New York, Routledge
Giroux Henry, 2002. “Neoliberalism, Corporate Culture, and the Promise of Higher Education: The University as a Democratic Public Sphere”, Harvard Educational Review, n°72(4), p. 245–263
Hanafi Sari, 2012. “Les systèmes universitaires au Moyen-Orient arabe”, Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, n°131, p. 23-44, URL : https://journals.openedition.org/remmm/7579
IRES, 2019. La recherche scientifique et l'innovation dans le monde arabe, URL: https://www.ires.ma/wp-content/uploads/2019/07/RAPPORT-RSI-dans-le-monde...
Kleiche Dray Mina, 2007. La recherche scientifique au Maroc : rapport de synthèse, Rabat (MAR), Paris, IRD
Mény Yves, 2019. “La technocratie : auxiliaire démocratique ou bouc émissaire du « peuple » ? ”. in Y. Mény (dir.), Imparfaites démocraties, Paris, Presses de Sciences Po, p. 119-159
Vermeren Pierre, 2002. La Formation des élites marocaines et tunisiennes. Des nationalistes aux islamistes, 1920-2000, Paris, La Découverte
Vermeren Pierre, 2016. Histoire du Maroc depuis l'indépendance, Paris, La Découverte
[1] في تصنيف معهد لودر التابع لجامعة بنسلفانيا المنشور في 30 كانون الثاني/يناير 2019، صنف مركز السياسات للجنوب الجديد في المرتبة السابعة كأفضل مركز أبحاث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والأول في المغرب. ويشير احتفاء مراكز البحث برتبها، وإعلان ذلك على مواقعها الإلكترونية، إلى غايات التسويق، واستقطاب الباحثين المتعاقدين وتوسيع طلبيات الخبرة والاستشارة.
[2] حافظت مجموعة OCP المغربية على مكانتها كأكبر مصدر للفوسفات في العالم، حيث وصلت حصتها في السوق العالمية إلى 34 بالمئة في أيلول/سبتمبر 2019.
رشيد البزيم أستاذ القانون العام بجامعة ابن زهر، أكادير (المغرب)، حاصل على الدكتوراه في العلوم القانونية من جامعة الحسن الأول، وعلى شهادة الماجستير في القانون الدولي من جامعة ليموج بفرنسا. صدر له مؤخراً:
Reinventing the Moroccan state and the implementation of the independent regulatory agencies (IRAs) (Católica Law Review, 2020)
DOI: https://doi.org/10.34632/catolicalawreview.2020.6968
Conseil de la concurrence au Maroc : de la recherche de l'indépendance à la régulation du marché (l'Harmattan, 2019)
البريد الالكتروني: r.elbazzim@uhp.ac.ma
آمال الحواسني أستاذة القانون الدولي والعلاقات الدولية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية آيت ملول، جامعة ابن زهر، أكادير.
لها مجموعة من الإسهامات العلمية في مجال العلاقات الدولية والقانون الدولي. في كانون الثاني/يناير 2020، شاركت بدراسة عنوانها: "انعكاسات قضية الصحراء على الاتحاد المغاربي"، ضمن مؤلف جماعي، سلسلة الدراسات القانونية والدبلوماسية، الطبعة الأولى 2020. وفي آب/أغسطس 2019، صدر لها مقال بعنوان: "التوجهات الأفريقية للمغرب: السياق والرهانات الاستراتيجية"، ضمن العدد 147 من المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية. وفي كانون الأول/ديسمبر 2019، صدر لها مقال بعنوان: "تحديات ورهانات الدبلوماسية الاقتصادية المغربية تجاه أفريقيا"، ضمن مؤلف جماعي، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الأولى 2019.
البريد الالكتروني: amalelhouasni@gmail.com