الشيخوخة في أوقات الأزمات: العاملون/العاملات في القطاع الخاصّ في مواجهة تفاقم انعدام الأمن الاجتماعي في لبنان أثناء مرحلة الشيخوخة

Publishing Date: 
August, 2022
Dossier: 
Socio-Economic Rights Base, Conflict Analysis Project
Author(s): Luna Dayekh
Abstract: 

يسلّط هذا المقال الضوء على الثغرات ونقاط الضعف الموجودة في نظام الحماية الاجتماعية في لبنان، ويُطالِب بتوفير الدعم المناسب لجميع المواطنين/ات، وخصوصًا كبار السنّ. فيُظهر أنّ المسنّين/المسنّات الذين/اللواتي يشكّلون/يشكّلن أكثر من ۱۱ في المئة من سكّان لبنان، يدفعون/يدفعْنَ ثمن ضعف نظام الحماية الاجتماعية الذي يعاني من ثغرات في التغطية القانونية والفعلية، ويفتقر إلى التمويل المستدام. ويؤكّد المقال أنّ الأشخاص الذين/اللواتي شَغَلوا/شَغَلْنَ وظائف غير نظامية أو عَملوا/عَملْنَ لحسابهم/هنّ الخاصّ طوال حياتهم/هنّ، لا يستفيدون/يستفدْنَ من الحماية الاجتماعية والاستحقاقات، وبالتالي يعتمدون/يعتمدنَ على أشكال بديلة للدعم، أو قد يحتاجون/يحتجنَ إلى مواصلة العمل بعد سنّ التقاعد. انطلاقًا من هذه المعطيات، يدعو المقال إلى اعتماد نظام حماية اجتماعية مبني على الحقوق في لبنان، يتضمّن برامج المعاشات التقاعدية من بين أمور أخرى.

Keywords: Lebanon, Social Protection, Poverty, Elderly, Pension, Retirement, Informal Sector, Self-Employment

To cite this paper: Luna Dayekh,"الشيخوخة في أوقات الأزمات: العاملون/العاملات في القطاع الخاصّ في مواجهة تفاقم انعدام الأمن الاجتماعي في لبنان أثناء مرحلة الشيخوخة", Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, 2022-08-01 00:00:00. doi:

[ONLINE]: https://civilsociety-centre.org/paper/الشيخوخة-في-أوقات-الأزمات-العاملونالعاملات-في-القطاع-الخاصّ-في-مواجهة-تفاقم-انعدام-الأمن
Embed this content: 
Copy and paste this code to your website.
Full text: 
Full text
.أشخاص يمرّون أمام رجل لبناني مسن بلا مأوى في بيروت [Hassan Ammar/AP Photo] - Source: https://www.aljazeera.com/gallery/2021/6/23/in-times-of-crises-lebanons-old-must-fend-for-themselves

سمير، سائق سيارة أجرة يبلغ من العمر ٧۲ سنة، عمل على مدى العامين الماضيين طيلة أيّام الأسبوع ليتمكّن من تأمين نفقات المعيشة الأساسية. يوقف سيارته في ظلِّ شجرةٍ لكي يأخذ قيلولة تجعله يستمرّ في العمل حتّى اللّيل، ويقول: "أريد أن أعيش بكرامة وسأعمل حتّى الرمق الأخير لأضمن كرامتي."[1]

رغم تقدّمه في السنّ وتدهور حالته الصحية، يقضي سمير أيّامه وهو يقود سيارته مُتجوّلًا في شوارع بيروت بلا كلل من أجل تأمين ما يكفي من المال لتسديد احتياجات الأسبوع. يتنهّد بصوت عالٍ ويقول: "أفكّر طوال الوقت في هذا الوضع وكأنّه كابوس لا ينتهي أبدًا. الأسبوع الماضي، وقفت في الطابور لمدّة ساعة لشراء الخبز بسبب أزمة انقطاع الخبز التي يشهدها البلد. ولم أستطع شراء أكثر من ربطة واحدة لأنني كنت قد أنفقت الكثير من المال لتعبئة البنزين في سيارتي."

تعكس قصّة سمير هواجس العديد من كبار السنّ في وقت يعاني لبنان إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية غير المسبوقة في تاريخه. اعتبارًا من عام ۲٠۲۲، فقدت الليرة اللبنانية ۹٣ في المئة من قيمتها في سوق الصرف الموازية بعد تحرير سعر صرف الدولار الأمريكي الذي كان مثبتًا على سعر ۱٥٠٧ ليرة لبنانية (سلامة، ۲٠۲۲). وصلَ سعر الصرف الحالي إلى ٣٠ ألف ليرة لبنانية للدولار الأمريكي الواحد في السوق الموازية.[2] وأظهرت دراسة أعدّتها الإسكوا أنّه مع نهاية عام ۲٠۲۱، أصبحت الأسرة اللبنانية تحتاج إلى ٥.٥ أضعاف مما كانت تتقاضاه في عام ۲٠۱۹ لتتمكن من شراء السلع والخدمات نفسها على سعر صرف الدولار (الإسكوا، ۲٠۲۲).

بالتالي، أدّت الأزمة الاقتصادية الحالية إلى تفاقم انعدام أمن الدخل، ووفقًا لدراسة أخرى أجرتها الإسكوا، تضاعف معدّل الفقر المتعدّد الأبعاد في لبنان من ٤۲ في المئة في عام ۲٠۱۹ إلى ۸۲ في المئة من إجمالي السكّان في عام ۲٠۲۱ (الإسكوا، ۲٠۲۱)[3]. في لبنان، يشكّل كبار السنّ أكثر من ۱۱ في المئة من السكّان، فيحتلّ لبنان المرتبة الأولى في المنطقة العربية، ومن المتوقّع أن ترتفع هذه النسبة إلى ۱٤ في المئة بحلول عام ۲٠٣٠ (وزارة الشؤون الاجتماعية والإسكوا، ۲٠۲۱). ومن المتوقع أنَّ الأشخاص الذين/اللواتي تبلغ أعمارهم/نّ ٦٥ سنة أو أكثر سيكونون من بين الفئات الأكثر تضرُّرًا من تقلّبات الدخل. وبالنظر إلى هذه الأرقام والأزمات الأخيرة، من الضروري تسليط الضوء على الثغرات ومَوَاطِن الضعف في نظام الحماية الاجتماعية في لبنان والمُطالبة بالدعم الكافي لجميع المواطنين/ات، وخصوصًا كبار السنّ.

يقول سمير: "في البلدان الأخرى، يتقدّم الناس في العمر بكرامة. أمّا نحن في لبنان فمهمّشون/ات؛ لا نتوقّع حتّى الحصول على أيّ تقديمات بعد سنوات من العمل الشاق". قبل أن يصبح سمير سائق سيارة أجرة، أوضح أنّه شَغل وظائف مختلفة كمُياوم، معظمها بموجب اتفّاقات عمل غير نظامية وبدون راتب ثابت. فلم يوقّع أبدًا على عقد عمل ولم يتلقَّ أي حماية اجتماعية في وظائفه، حتّى عندما كان يعمل ساعيًا في شركة خاصّة. وأضاف قائلًا: "فضّلتُ تجنّب هذا الموضوع مع صاحب العمل، فقد كان يزعجه ذلك ولم أرغب في المخاطرة بأن أصبح عاطلًا عن العمل ولديّ عائلة أعيلها". كشفت دراسة استقصائية أجرتها إدارة الإحصاء المركزي ومنظّمة العمل الدولية أنّ نسبة العمل غير النظامي ارتفعت من ٥٤.۹ في المئة في ۲٠۱۸-۲٠۱۹ إلى ٦۲.٤ في المئة في عام ۲٠۲۲ (إدارة الإحصاء المركزي ومنظّمة العمل الدولية، ۲٠۲۲). إضافةً إلى ذلك، وكما هو حال سمير، تُظهر الدراسات أن ثلث (٣٦ في المئة) العاملين/العاملات الذين/اللواتي يشغلون/يشغلنَ وظائف غير نظامية يعملون/يعملنَ خارج القطاع غير النظامي (إدارة الإحصاء المركزي ومنظّمة العمل الدولية، ۲٠۲٠). وهذا يعني أنّهم/هنّ يعملون/يعملنَ في شركات خاصّة أو مؤسسات عامة تابعة للقطاع النظامي بعقود قصيرة الأمد ومن دون الاستفادة من تقديمات الضمان الاجتماعي.

خلال العامين الماضيين، يذهب سمير لشراء البقالة من السوبر ماركت ويجد نفسه بالكاد قادرًا على شراء السلع المنزلية الضرورية. "كانت زوجتي تقوم بالتسوّق بينما كنت أعمل، ولكن الآن ينقطع التيار الكهربائي معظم اليوم فلا يمكنها أن تصعد على الأدراج خمسة طوابق بدون مصعد كهربائي." لا يزوّدهم المولد بالكهرباء خلال النهار، ولا يحصلون على الكهرباء إلّا بضع ساعات ليلًا. تقدّم شركة كهرباء لبنان التغذية الكهربائية للمنازل في بيروت لمدّة ساعة أو ساعتين يوميًا، وتتوقّف محطّات توليد الكهرباء عن العمل في مختلف المناطق بسبب انقطاع المحروقات (شهيّب، ۲٠۲۱).

يحكي سمير أنّه لم يعد يشتري اللّحوم بشكل متكرّر كما كان يفعل في السابق بسبب الأسعار الباهظة وبسبب انقطاع التيار الكهربائي الذي يعطّل عمل الثلاجة. ويقول: "أصبح كلّ شيء مُكلفًا، باستثناء حياتنا، حياتنا باتت الأرخص". في شوارع بيروت ومدن أخرى، أصبح من المألوف رؤية أشخاص من جميع الأعمار وهم/هنّ يبحثون/يبحثنَ بين النفايات عن الطعام أو أشياء أخرى. وبعد سنوات من تأجيل الحلول للمشاكل، لم تقدّم الحكومة أي دعم يُذكَر لمواطنيها/لمواطناتها، إضافةً إلى عدم تطبيق أيّ إصلاحات ضرورية لتحسين ظروفهم/هنّ المعيشية. لم تَظهَر علامات التعافي على الاقتصاد اللبناني حتّى الآن، إذ سجّل مؤشر أسعار الاستهلاك زيادةً بنسبة ۲۱۱ في المئة في أيّار/مايو ۲٠۲۲ مقارنةً بشهر أيّار/مايو ۲٠۲۱، إضافةً إلى زيادة ملحوظة في أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية بنسبة ٣٦٣.٧۸ في المئة (إدارة الإحصاء المركزي، ۲٠۲۲). وسجّلت أسعار المحروقات رقمًا قياسيًا جديدًا في عام ۲٠۲۲ (اللواتي، ۲٠۲۱) (شهيّب، ۲٠۲۱)[4]. وبما أنّ سمير سائق سيارة أجرة، لم يعد ينتج دخلًا كافيًا. ويوضّح قائلًا: "بالكاد أكسب ما يكفي من المال لتأمين ثمن تنكة بنزين. فبلغت تكلفة التوصيلة الواحدة الآن حوالي ٥٠,٠٠٠ ليرة لبنانية (أيّ حوالي ۱.٧ دولار أمريكي)، لكن غالبًا ما يسألني الناس عمّا إذا كان بإمكانهم/نّ دفع مبلغ أقلّ، فلا أستطيع الرفض لشعوري بالخجل، فأنا أعلم أنّ الجميع يعاني."

يعتمد كبار السنّ في لبنان بالدرجة الأولى على أبنائهم/هنّ وبناتهم/هنّ في الأمور المالية والرعاية الاجتماعية، لكنَّ سمير يشعر بالذنب بشكل متزايد من طلب المزيد من المساعدة، خصوصًا في ظلّ الأزمة. لدى سمير ولدان يعيشان في لبنان، يساعدانه في تسديد رسوم اشتراك المولد الكهربائي وشراء بعض الأدوية الضرورية، لكنه يخجل من طلب مساعدة إضافية منهما. "أقول لهما دائمًا إنّه لدي ما يكفي من المال، حتّى عندما تكون محفظتي فارغة. لا أستطيع أن أُثقل كاهلهما؛ فراتب ابني بالكاد يكفي لتغطية أقساط تعليم ابنه". ويرفض سمير أيّ نوع من المساعدة من السياسيين أو "الجمعيات" (المنظّمات/المؤسسات)[5] زاعمًا أنها جميعها "في الخانة نفسها" لناحية الفساد واختلاس الأموال.

دنيا امرأة تبلغ من العمر ۸۱ سنة، تقيم بمفردها في شقّتها الواقعة على الطابق الأول في مبنى قديم. في صباح يوم من أيّام الصيف الحارّة، تُخرِج مروحتها الورقية، وتقول: "يزداد انقطاع الكهرباء في هذه الفترة، ولا يرحموننا". تعاني دنيا بصمت من أمراض عدّة وعليها أن تتحمّل تدهور ظروف الحياة بفعل الأزمة.

عملت دنيا في مجال الخياطة طوال حياتها، لكن عند بلوغها سنّ الـ ٧۲ أُجبرت على التوقف نتيجة ضعف قدرتها اليدوية. وهي تعاني حاليًا من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم، كما خضعت لعمليتين جراحيتين للقلب جعلتاها تتطلّب رعاية طبية إضافية. وأعربت دنيا عن صعوبة التوفيق بين الاحتياجات الأساسية، إذ أصبح الطعام الآن أغلى من الأدوية؛ وتقول: "مرّ شهر رمضان المبارك في غاية الصعوبة بالنسبة إليّ؛ بالكاد استطعت شراء الخضار لصنع وجبة طعام".

نظرًا إلى أنّها تعمل لحسابها الخاصّ، لطالما شكّلت مسألة الرعاية الصحية مصدر قلق دائم بالنسبة إليها، وقالت: "التأمين الصحي الخاصّ مُكلف جدًا، ولطالما كانَ كذلك، فلن أحلم بالحصول عليه أبدًا. فالمال الذي جمعته من خياطة الملابس بالكاد كان كافيًا لتأمين احتياجاتي على مرّ السنوات". بلغت تكلفة أدويتها الضرورية ٥ ملايين ليرة لبنانية شهريًا (حوالي ۱٦٦ دولارًا أمريكيًا[6])، في حين أنّ إنفاق دنيا الشهري يعتمد على مبلغ تتقاضاه من شبكات الدعم، وهو مبلغ لا يتجاوز ۸٠٠,٠٠٠ أو ۹٠٠,٠٠٠ ليرة لبنانية، أي ما بين ۲٧ و٣٠ دولارًا أمريكيًا تقريبًا. وكما ذُكر في إحدى المقالات التي نشرتها وكالة الجزيرة، كان سعر دواء الضغط قد ازداد تسعة أضعاف في تشرين الثاني/نوفمبر ۲٠۲۱ (شهيّب، ۲٠۲۱). في ظلّ غياب التأمين الصحّي الشامل وشبكات الأمان الاجتماعي الفعّالة، تشكّل تكلفة الرعاية الصحية عبئًا كبيرًا بالنسبة إلى كبار السنّ في لبنان. في المشهد اللبناني، تعاني شبكات الأمان مثل برنامج دعم الأسر الأكثر فقرًا (NPTP) والمشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي (ESSN) من قيود وثغرات عدّة (سكالا، ۲٠۲۲) (اليونيسف ومنظّمة العمل الدولية، ۲٠۲۱). على سبيل المثال، هناك أدلة كثيرة تُثبت محدودية برنامج دعم الأسر الأكثر فقرًا. واعتبارًا من شهر آذار/مارس ۲٠۲۱، "تمكّن ۱.٥ في المئة فقط من السكّان في لبنان من الاستفادة من برنامج دعم الأسر الأكثر فقرًا" (سكالا، ۲٠۲۲) (اليونيسف ومنظّمة العمل الدولية، ۲٠۲۱).

من أجل تأمين استمراريتها، تعتمد دنيا على شبكات دعم بديلة لتأمين احتياجاتها الأساسية بعد أن توقفت عن العمل. مثلًا، شكّلت عائلتها المصدر الرئيسي للدعم والتضامن، فتقول دنيا: "يساعدني أقربائي في تأمين الأدوية الضرورية، ولكن في بعض الأحيان نعاني من أجل العثور على الأدوية أو قد لا نملك ما يكفي من المال لتغطية التكاليف، لذلك أُفوّت بعض الجرعات إلى أن تُؤمَّن الأدوية." يؤدي نقص الأدوية وارتفاع كلفتها، خصوصًا الأدوية المخصصة لمعالجة الأمراض غير المعدية مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري، إلى زيادة حاجة هؤلاء المرضى إلى الدخول إلى المستشفى لتلقّي العلاج، لا سيّما بالنسبة إلى المسنّين/المسنّات الذين/اللواتي يعانون/يعانين من تدهور حالتهم/نّ الصحية منذ عام ۲٠۱۹ (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ۲٠۲۱).

حتّى قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية في عام ۲٠۱۹، لم تقدّم الدولة أيّ خدمات اجتماعية أو رعاية ملائمة للمسنّين/المسنّات؛ فكانوا/كُنّ يعتمدون/يعتمدن في الأساس على أشكال دعم بديلة. أجرت ميلاني كاميت بحثًا حول الطائفية والرفاه الاجتماعي في لبنان، استكشفت فيه كيف ساهم النظام السياسي الطائفي في لبنان في رسم مَعالِم نظام الرعاية الاجتماعية بعد الاستقلال (كاميت، ۲٠۱٤). فوضّحت أنّ الأحزاب الطائفية تقدّم المساعدات الصحية والغذائية والتعليمية إضافةً إلى المساعدات المالية، وتعمل كوسيط لتسهيل حصول المواطن/ة على هذه "الاستحقاقات". وتشرح دنيا قائلةً إن عائلة الحريري كانت تسدّد تكاليف دخول المستشفى، إلّا أنَّ هذه المساعدات توقفت مع بداية الأزمة حين واجهت عائلة الحريري تراجعًا في الدعم السياسي.

لكن كانت دنيا تتلقّى مساعدة نقدية شهرية بصورة مستمرّة من صندوق الزكاة، وهي منظمة دينية معروفة لأعمالها الخيرية، وتتراوح قيمة المساعدة بين ۱٠٠,٠٠٠ و۲٠٠,٠٠٠ ليرة لبنانية أي ٤-٧ دولارات أمريكية بحسب سعر الصرف في السوق. يدعم دار الفتوى صندوق الزكاة الذي يقدّم المساعدة لدنيا، وتربط هذا الأخير علاقاتٌ سياسية بعائلة الحريري. وعلى غرار ذلك، برزت منظّمات دينية مدعومة من الأحزاب الطائفية من خلال تقديم خدمات الرعاية الاجتماعية في لبنان طوال الأزمة المستمرة. بالإضافة إلى ذلك، تتلقّى دنيا مساعدة ضئيلة من "جمعية أهلنا"، وهي منظّمة محلية صغيرة لا تستهدف الربح وتُقدّم خدمات طبية وحصصًا غذائية. وبحسب شرح نبيل عبدو، فإنَّ إطار الحماية الاجتماعية غير النظامي في لبنان يُدار من خلال المنظّمات غير الحكومية (مثل جمعية أهلنا) والأحزاب الطائفية والمنظّمات التابعة لها، وكذلك أفراد الأسرة والأقارب (عبدو، ۲٠۱٤).

أدّت الأزمة الاقتصادية إلى تفاقم أوجه التفاوت في الثروة التي كانت موجودة في المجتمع. وفي حين يستدعي هذا الوضع إصلاحاتٍ منهجية، اعتمدت الحكومة والمجتمع الدولي مقاربة مبنية على حالات الطوارئ تستند في معظمها إلى برامج الاستهداف ومساعدات نقدية. ويُعَدّ برنامج البطاقة التمويلية والمشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي غير مستدامَيْن بطبيعتهما وغير فعّالَيْن في حدّ ذاتهما بدون نظام ضمان اجتماعي ممتدّ على كامل دورة الحياة (دايخ، ۲٠۲۲)[7]. ويُعتبَر الإقصاء أحد مَوَاطِن الضعف الرئيسية في هذه البرامج، لأنّ نظام الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل (PMT) المُستخدم لتحديد الأسر التي يمكن أن تستفيد من البرامج الاجتماعية، يؤدّي إلى نتائج غير دقيقة وأخطاء ينتج عنها الإقصاء بنسبة تتراوح بين ٤٦% و۹٦%. والأهمّ من ذلك أنّها تنبع من "مقاربة قائمة على العمل الخيري" بدلًا من المقاربة القائمة على الحقوق لتأمين الحماية الاجتماعية (مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقيّة، ۲٠۲۲).[8] تقول دنيا إنّها لم تسمع عن برامج المساعدة الاجتماعية هذه من قبل، "لقد واجهت صعوبات في التسجيل عبر الإنترنت لتلقّي اللقاح، فكيف يتوقّعون منّي أن أبقى على اطّلاع دائم بكلّ هذه البرامج على الإنترنت؟". منذ فترة، قامت منظّمة غير حكومية تحمل اسم "الإنعاش الاجتماعي" بزيارتها في منزلها لجمع المعلومات، وأبلغتها لاحقًا أنها مؤهّلة لتلقي المساعدة. لكن، لم تتلقَّ دنيا أيّ مساعدة، فلم تتصل بها المنظمة مرّة أخرى للمتابعة.

أجرت جمعية المقاصد والجامعة الأمريكية في بيروت دراسة لاستكشاف آثار الأزمات في لبنان على الظروف المعيشية للمسنّين/ات، وتَبيَّنَ أنّ ٧۲ في المئة يعانون/يعانينَ من مرض مزمن واحد على الأقل، و٥۸ في المئة لا يملكون/يملكْنَ أي تغطية صحية و۸٦ في المئة لا يتلقون/لا يتلقَّيْنَ أيّ معاش تقاعدي (وزارة الشؤون الاجتماعية والإسكوا، ۲٠۲۱).[9] ويذكر التقرير أيضًا أنّ ۸۲ في المئة اضطروا/اضطررن إلى تأجيل زيارتهم/هنّ للطبيب في عام ۲٠۲٠ بسبب الكلفة المرتفعة. وتعكس هذه الأرقام صراع دنيا مع النظام الصحي في لبنان خلال الأزمة؛ فتقول: "لا أملك ما يكفي من المال لدفع أكثر من ٥٠٠,٠٠٠ ليرة لبنانية (حوالي ۱٧ دولارًا أمريكيًا) لزيارة واحدة للطبيب، فالكلفة باهظة. قد أذهب إلى الطبيب في الحالات الطارئة فقط."

بسبب المخاوف المتزايدة جرّاء جائحة كوفيد-۱۹، أمضت دنيا معظم الوقت في المنزل بمفردها خلال العامين الماضيين. تتذكّر السنوات التي سبقت عام ۲٠۱۹، وتُخبر أنّها اعتادت أن تلتقي بجيرانها في مساحة خارجية صغيرة بجوار المبنى، فكانوا يتشاركون طعام الفطور والقهوة والضحكات. تحدّثت دنيا بأسف عن توقّف التجمعات مع بداية الجائحة والأزمة الاقتصادية المتفاقمة: "كنت قلقة على صحتي، وأدّت الأزمة إلى صراعات ومخاوف جديدة. لم تعد الأمور كما كانت في السابق." أدّت جائحة كورونا إلى تجريد العديد من المسنّين/ات من تفاعلاتهم/هنّ الاجتماعية المُعتادة. فكانَ لتجربة العزلة والوحدة تأثيرٌ ضار على صحّتهم/هنّ النفسية والجسدية، بما في ذلك زيادة خطر الإصابة بالاضطرابات النفسية (فراش وراهول، ۲٠۲٠).

ختامًا، لا يحقّ للأشخاص العاملين/العاملات بصورة غير نظامية أو العاملين/العاملات لحسابهم/هنّ الخاص، مثل سمير ودنيا، الحصول على الحماية الاجتماعية والاستحقاقات، ما يجعلهم/هنّ في وضع هشّ حتّى قبل وقوع الأزمات.

وكما قال نبيل عبدو، يوجد انقسام واضح في لبنان بين أقلية تشملها برامج التأمين الاجتماعي من خلال العمل النظامي، وأغلبية مُستبعَدة من جميع أشكال الحماية الاجتماعية (عبدو، ۲٠۱٤). وبحسب الشرح السابق الوارد أعلاه، في ظلّ وجود مستويات مرتفعة من العمل غير النظامي ومع استمرار الأزمات المتفاقمة، يضطر الكثيرون إلى تأمين الخدمات والاحتياجات الأساسية بنفسهم/هنّ أو بدعم من شبكاتهم/نّ ومجتمعاتهم/نّ. وحول هذه النقطة، يقول سمير: "لا يُعدّ لبنان المكان المناسب للتقدّم في السنّ؛ فنحن نُترَك لنُواجه مصيرنا بأنفسنا". وفي ظلّ الشعور بأنّ الدولة قد تخلّت عنهم/نّ، لا خيارَ أمام بعض المسنّين/ات مثل سمير سوى الاستمرار في العمل بعد سنّ التقاعد من أجل تأمين معيشتهم/هنّ، رغم التحديات الصحية. وتشير الأرقام إلى أنّ ٤۱ في المئة من المسنّين/ات الذين/اللواتي تتراوح أعمارهم/هنّ بين ٦٥ و٦۹ عامًا، و۲۹ في المئة ممن تتراوح أعمارهم/هنّ بين ٧٠ و٧٥ عامًا ما زالوا/زلن يعملون/يعملن ("هلب إيج" ومنظمة العمل الدولية، ۲٠۲۲). ويلجأ آخرون إلى دعم الأقارب والمنظّمات التي تتكفّل بتقديم الخدمات.

بشكل عام، يدفع كبار السنّ ثمن ضعف نظام الحماية الاجتماعية الذي يعاني من ثغرات في التغطية القانونية والفعلية ويفتقر إلى التمويل المستدام (اليونيسف ومنظمة العمل الدولية، ۲٠۲۱). في ضوء الأزمات الحالية ومن الآن فصاعدًا، يجب على الحكومة اتّخاذ الخطوات اللازمة لإعداد نظام حماية اجتماعية شامل ومبني على الحقوق، بما في ذلك معاشات التقاعد ومخصصات الإعاقة والمِنَح الخاصة بالأطفال، من أجل إنشاء مِنَح اجتماعية وتطوير نظام الحماية الاجتماعية في البلد. ومن شأن هذه التقديمات، إلى جانب إصلاحات نظام التأمين الاجتماعي، أن تُوفّر مستوى حماية أفضل للجميع، بمن فيهم العاملين/العاملات في القطاع غير النظامي.

*نُشر هذا المقال بالاشتراك مع اليونيسف في لبنان.

 

المراجع

Abdo, Nabil. 2014. “Social Protection in Lebanon: From a System of Privileges to a System of Rights”. Arab NGO Network for Development. https://www.annd.org/data/file/files/Social%20protection%20in%20Lebanon%20ENGLISH.pdf.

Al Lawati, Abbas. August 12, 2021. “Lebanon removes fuel subsidies despite economic crisis”. Bloomberg. Middle East Edition. https://www.bloomberg.com/news/articles/2021-08-12/lebanon-s-central-bank-removes-fuel-subsidies-despite-crisis.

Cammett, Melanie. 2014. “Compassionate Communalism: Welfare and Sectarianism in Lebanon”. Ithaca: Cornell University Press.

Central Administration of Statistics and International Labour Organization. 2020. “Labour Force and Household Living Conditions Survey (LFHLCS) 2018-2019 Lebanon”. Central Administration of Statistics -Home. http://www.cas.gov.lb/images/Publications/Labour%20Force%20and%20Household%20Living%20Conditions%20Survey%202018-2019.pdf.

Central Administration of Statistics and International Labour Organization. January, 2022. “Lebanon Follow-up Labour Force Survey”. Lebanon follow-up Labour Force Survey. http://www.cas.gov.lb/images/Publications/LFS_2022/Lebanon%20FLFS%20Jan%202022%20EN.pdf.

The Centre for Social Sciences Research and Action. May, 2022. “Can the PMT Ensure Access to Social Protection to Lebanon's Poorest?”. https://civilsociety-centre.org/content/can-pmt-ensure-access-social-protection-lebanons-poorest-0.

Central Administration of Statistics. May, 2022. “The Consumer Price Index in Lebanon May 2022”. الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك في لبنان شهر أيّار ٢٠٢٢.  http://www.cas.gov.lb/images/PDFs/CPI/2022/5-CPI_MAY2022.pdf.

Chehayeb, Kareem. November 19, 2021.“Doctors Fear 'Surge in Deaths' after Lebanon Lifts Drug Subsidies”. Al Jazeera. https://www.aljazeera.com/news/2021/11/19/doctors-fear-surge-in-deaths-after-lebanon-lifts-drug-subsidies.

Chehayeb, Kareem. June 11, 2021. “Lebanon Electricity Crisis: 'Disaster in the Making',” Business and Economy News. Al Jazeera. https://www.aljazeera.com/news/2021/6/11/lebanon-electricity-crisis-disaster-in-the-making.                                                                                                                                      

Chehayeb, Kareem. March 8, 2021. “Lebanese fearful as fuel and wheat shortage deepens”. Al Jazeera. https://www.aljazeera.com/news/2022/3/8/lebanese-fearful-as-fuel-and-wheat-shortage-deepens

Dayekh, Luna. May, 2022. “The Ration Card: A Response to the Economic Crisis in Lebanon. To what extent are cash transfer programs effective?”. The Centre for Social Sciences Research and Action. https://civilsociety-centre.org/paper/ration-card-response-economic-crisis-lebanon-what-extent-are-cash-transfer-programs-effective

HelpAge and International Labour Organization. March, 2022.  “Lebanon: Older People Face Desperate Circumstances Due to Lack of Social Protection”. HelpAge International. https://www.helpage.org/what-we-do/lebanon-social-protection/.

Lebanese Republic Ministry of Social Affairs and UN ESCWA. June, 2021.  “The National Strategy for Older Persons in Lebanon 2020-2030”.  https://www.unescwa.org/sites/default/files/event/materials/ONLINE%20-%20Final%20English%20Strategy%20for%20online%20use.pdf.

Salame, Richard. February 3, 2022.  “Lebanese Lira Lost 82 Percent of Its Purchasing Power in Two-Year Period, UN Data Shows.” L'Orient Today. https://today.lorientlejour.com/article/1289780/lebanese-lira-lost-82-percent-of-its-purchasing-power-in-two-year-period-un-data-shows.html#:~:text=ECONOMIC%20CRISIS-,Lebanese%20lira%20lost%2082%20percent%20of%20its%20purchasing%20power%20in,year%20period%2C%20UN%20data%20shows&text=BEIRUT%20%E2%80%94%20New%20data%20released%20Wednesday,power%20between%202019%20and%202021.

Scala, Michele. January, 2022. “An Intersectional Perspective on Social (in)Security - Making the case for universal social protection in Lebanon”. https://civilsociety-centre.org/sites/default/files/resources/cessra-intersectionalperspectivesocialinsecurity-jan2022-en-online.pdf.

UN ESCWA. February, 2022. “Release of New Purchasing Power Parities for the Arab Region”, Real sizes of Arab economies. https://www.unescwa.org/sites/default/files/pubs/pdf/release-new-purchasing-power-parities-arab-region-real-sizes-arab-economies-english.pdf.

UNICEF and ILO. March, 2021. “Towards a Social Protection Floor for Lebanon”. https://www.unicef.org/lebanon/media/6231/file/Towards_a_Social_Protection_Floor_for_Lebanon_Lifecycle_Social_Grants_EN.pdf.

UN OCHA. September, 2021. “Emergency Response Plan – Lebanon 2021-2022 in Lebanon”. https://lebanon.un.org/en/139099-emergency-response-plan-lebanon-2021-2022.

Vrach, Ilona Tappenden and Tomar, Rahul. November, 2020. “Mental Health Impacts of Social Isolation in Older People during Covid Pandemic”. Progress in Neurology and Psychiatry 24, no. 4. pp. 25-29. https://doi.org/10.1002/pnp.684.

 

 

 

[1] يستند هذا المقال إلى مقابلات تفصيلية أُجريت في شهر حزيران/يونيو ۲٠۲۲ حول السيرة الذاتية لعامل وعاملة مسنَّيْن في القطاع الخاصّ.

[2] يعود سعر الصرف المذكور إلى تاريخ ٣۱ تموز/يوليو ۲٠۲۲.

[3] اتّسع مفهوم مؤشر الفقر المتعدّد الأبعاد الذي يُقاس من خلال مستوى الدخل الفردي أو الأسري ليشمل جوانب مختلفة من الظروف المعيشية. في السياق اللبناني، تُؤخذ في الاعتبار تصنيفات معينة مثل عدم القدرة على تأمين الأدوية والحرمان من الكهرباء.

[4] رفعت الحكومة اللبنانية الدعم عن المحروقات خلال شهر آب/أغسطس ۲٠۲۱ بالتزامن مع تفاقم الأزمة. وعقب غزو روسيا لأوكرانيا في عام ۲٠۲۲، شهدت أسعار المحروقات الرسمية في لبنان ارتفاعًا حادًا آخر، ما شكّل صدمة للمواطنين/ات الذين/اللواتي يعانون/يعانين أصلًا من التضخّم المرتفع والأجور المنخفضة.

[5] بحسب ما قال سمير، يبدو أنّه يضع جميع المنظّمات المحلية والدولية في الخانة نفسها باستخدام مصطلح "الجمعيات" الشامل.

[6] بحسب سعر الصرف الذي يساوي ٣٠,٠٠٠ ليرة لبنانية للدولار الأمريكي الواحد.

[7] يعاني برنامج البطاقة التمويلية من ثغرات وقيود كثيرة، من بينها الانتشار المحدود.

[8] إنّ نظام الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل (PMT) هو منهجية لتحديد الجهات المستهدفة عبر التنبؤ بمستوى رفاه الأسرة ومستوى دخلها باستخدام صيغة إحصائية معينة. وتستخدم الحكومات والمؤسسات المالية ومؤسسات المعونة هذه المنهجية لتحديد واستهداف الأسر التي يمكنها الاستفادة من البرامج الاجتماعية والتي يمكن أن تتلقى المساعدة. تشير الأدلة إلى أنّ نظام الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل لا يُلبّي بشكل فعال هدفه الرئيسي: ضمان حصول أفراد المجتمع الأكثر فقرًا على الحماية الاجتماعية. للمزيد من المعلومات، نَشَرَ مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقيّة عدّة مقالات حول هذا الموضوع: يمكن الاطّلاع على رسم بياني متعلّق بنظام الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل هنا؛ وسلسلة من الرسومات التوضيحية حول برنامج البطاقات التمويلية في لبنان هنا؛ ومقالة حول برنامج البطاقات التمويلية للكاتبة نفسها هنا.

[9] تستند الدراسة التي أُجريت بالتعاون مع جمعية المقاصد والجامعة الأمريكية في بيروت إلى عينة مؤلفة من ٥۸٠ شخصًا تتراوح أعمارهم/نّ بين ٥٠ و۹٤ عامًا.

About the author(s):
Luna Dayekh:

Luna Dayekh is a researcher holding a Bachelor's degree in International Relations and Politics from the University of Sheffield.

Her research interests include urban governance, political ecology, and alternative economies. Her current work at the Beirut Urban Lab focuses on actors and governance at a neighbourhood scale in the context of post-blast recovery.