الحفاظ على الاستمراريّة في عالمٍ متصدّع . إعادة ترتيب الأسرة انطلاقًا من المرأة اليمنيّة المغتربة في جيبوتي

Publishing Date: 
December, 2023
Dossier: 
Gender Equity Network, Conflict Analysis Project
Author(s): Morgann Barbara Pernot
Abstract: 

استنادًا إلى وضع النساء اليمنيّات المنفيّات في جيبوتي، تقترح هذه المساهمة دراسةً اجتماعيّةً أنثروبولوجيّةً حول إعادة ترتيب الأسرة في أوقات الحرب وفي سياق الهجرة. تتمحور هذه العملية غالبًا حول النساء المسؤولات، بحسب أدوارهنّ المختلفة (البنات، والأخوات، والزوجات، وزوجات الأبناء، والأمّهات، والأمّهات المشاركات)، عن الاستمراريّة الجَمَاعية من حيث الهويّة وبين الأجيال، في سياقٍ مُجزّأ من الناحيتين المكانية والزمانية. يحملْن آثار هذه الاستمرارية التي باتت تتلاشى يومًا بعد يوم على وجوههنّ، وفي أجسادهنّ، وخاصّةً عندما يُنجِبن، وأيضًا في كلّ ما ينقلْنه، مع إظهار إبداعهنّ في ابتكار ممارسات اجتماعيّة وعائليّة جديدة.

Keywords: women, Families, Migration, Yemen, Djibouti, Gender, Gender Roles, War

To cite this paper: Morgann Barbara Pernot ,"الحفاظ على الاستمراريّة في عالمٍ متصدّع . إعادة ترتيب الأسرة انطلاقًا من المرأة اليمنيّة المغتربة في جيبوتي", Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, 2023-12-01 00:00:00. doi:

[ONLINE]: https://civilsociety-centre.org/ar/paper/الحفاظ-على-الاستمراريّة-في-عالمٍ-متصدّع-إعادة-ترتيب-الأسرة-انطلاقًا-من-المرأة-اليمنيّة
Embed this content: 
Copy and paste this code to your website.
Full text: 
Full text
أشواق، 12 عاماً، في مخيم المركزي لللاجئين في أوبوك، شمال جيبوتي. تصوير: مصعب الشامي

مقدّمة

في القرن العشرين، استقطب الاستعمار الفرنسي لجيبوتي المهاجرين اليمنيين، وخاصةً التجار من الحُجرية (منطقة واقعة جنوب تعزّ). استقرّ بعضهم بشكلٍ دائمٍ بينما بقي آخرون يتنقّلون ذهابًا وإيابًا. وبالتالي، يولدون، ويتزوّجون، ويموتون في اليمن، ويتعاقبون في الأحياء التجاريّة لعاصمة جيبوتي، حيث كانوا وما زالوا يبيعون، معتمدين في أغلب الأحيان أسوب البيع بالتجزئة، جميع أنواع المنتجات (كالمنتجات الغذائيّة، والملابس الجاهزة، ومستحضرات التجميل، والخردة، إلخ). ولطالما غلبَ الطابع الذكوري على الهجرة التجاريّة، وكانت هجرة النساء تُعتبَر في ذلك الوقت أمرًا مُخزيًا. وقد ساهمت قدرتهنّ المحدودة على التنقّل في الحفاظ على الصلة بين المهاجرين واليمن، التي تعتمد اقتصاديًّا على المغتربين.  

أدّت الحرب التي اندلعت في اليمن منذ العام 2014[1] إلى تغيير هذا النمط الراسخ للهجرة، ممّا تسبّب في هجرة النساء إلى جيبوتي وتبديد الوهم القائل إنّ هجرة الرجال مؤقّتة، إذ أصبحَ الاغتراب بمثابة منفى عائلي (صيّاد، 1992). وبالنسبة إلى سكّان منطقة تعزّ، التي كانت تُعدّ تاريخيًّا منشأ أغلب التُجّار اليمنيّين في جيبوتي، باتت المغادرة نتاج ديناميات عائلية قديمة بقدر ما هي نتاج الاضطرابات التي خلّفتها الحرب. في الواقع، لاحظنا لدى معظم العائلات التي صادفناها صلةً سابقة تربطها بجيبوتي، حيث عاش أحد الأجداد، أو الآباء، أو الأعمام، أو الأخوال، أو الأخوة... وربّما هذا يُفسِّر لماذا يرفضون اعتبارهم "لاجئين"، وهو مصطلحٌ يشير إلى نوعٍ من التبعية التي تُعتبَر مُخزية. على الرغم من دور الحرب في مشروع هجرتهم، إلّا أنّهم يفضّلون التعريف عن أنفسهم كتجّار، تماشيًا مع لقب أسلافهم. أمّا النساء فهنّ محاصرات في المنفى (الغُربة)، ولا يُمارسن التجارة، ويَعتبِرن بالتالي أنَّ الحرب سبب رئيسيّ لرحيلهنّ.

ومع ذلك، يَعرِف المهاجرون اليمنيّون كيفيّة الاستحصال على الفئات الإداريّة مثل العامل الأجنبي، أو اللّاجئ، أو حتى المواطن الجيبوتي، للاستفادة من المزايا التي تُوفّرها كلّ صفة من هذه الصفات. من السهل نسبيًّا الحصول على صفة العامل الأجنبي، وإن كان يدفع ويحتاج إلى كفيل (الكفيل هو غالبًا صاحب العمل). وتمنح مفوضيّة الأمم المتّحدة لشؤون اللّاجئين صفة اللاجئ لأي يمني يُثبت وصوله إلى الأراضي الجيبوتيّة بعد عام 2015، ويصبح بالتالي مؤهّلًا للاستفادة من المساعدات التي تُقدّمها المنظّمة. وأخيرًا، تسمح الجنسيّة الجيبوتيّة بالحصول على عددٍ من الامتيازات القانونية والاقتصادية، لا سيّما للتجّار. يستفيد عددٌ كبيرٌ من النساء من تصريح الإقامة بصفة زوجة لعامل أجنبي أو مواطن جيبوتي. وتمتلك نساءٌ أخريات صفة اللاجئة، وربّما يكون لديهنّ الصفتين معًا. تسمح هذه الصفات كلّها بالتجوّل في أنحاء اليمن، إمّا جوًّا عندما يكون مطار عدن مفتوحًا وعندما تكون لديهنّ القدرة على دفع ثمن التذاكر الباهظة أحيانًا، وإمّا بحرًا.

وعليه، لا بدّ من التنويه هنا بحدود التصنيف التقليدي، التي سبقت الإشارة إليها في الشرق الأوسط من خلال أعمال "محمد كامل درعي" (درعي 2008). إنّ التمييز الذي لطالما كانَ منهجيًا بين هجرة اليد العاملة والهجرة القسريّة يحجب في الواقع تنوّع التجارب المتعلّقة بالهجرة داخل الأسرة، وخصوصًا في صفوف زوجات التجّار اليمنيّين اللواتي تتناولهنّ هذه الدراسة.

في الهجرة، قد تخشى النساء من أنّ خروجهنّ من السيطرة الاجتماعيّة اليمنيّة، خاصّةً فيما يتعلّق بحياتهنّ الجنسيّة، يهدّد شرفهنّ وشرف عائلاتهنّ، لا سيّما وأنّ آداب السلوك الاجتماعي تُعتبَر أكثر تحرُّرًا في جيبوتي مقارنةً باليمن. تُوضّح "ستيفاني لاتيه-عبد الله" هذه الفكرة على النحو التالي: "جسد المرأة هو مكانٌ يمكن أن تتعرّض فيه الهوية العائلية للخطر، وكذلك هويّة المجتمع والوطن" (لاتيه-عبد الله 2006). فمجرّد التباهي بالممارسات التي تُعتبر يمنيّة أصيلة وتشهد على التفوّق الأخلاقي للمرأة، مثل الفصل بين الجنسين في المكان والزمان (تحريم الخلوة، التواجد المشترك المعزول للرجال والنساء الذين يمكنهم عقد الزواج، الحجاب الذي يغطّي وجه المرأة تحت اللّثام)، يسمح بالحفاظ على الشرف العرقي (بارث 1969) لمجموعةٍ فقدت أرضها، وفقدت بالفعل أحد أُسُس هويّتها.

في هذا المقال، أتطرّق إلى دور النساء في الحفاظ على استمراريّة هويّة المجموعة والعائلة من جيلٍ إلى آخر، في سياقٍ تُمزّقه التصدّعات العنيفة. يحملْن آثار هذه الاستمرارية التي باتت تتلاشى يومًا بعد يوم على وجوههنّ، وفي أجسادهنّ، وخاصّةً عندما يُنجِبن، وأيضًا في كلّ ما ينقلْنه.

سأتحدّث أوّلًا عن مسار هجرة هؤلاء النساء، الذي يبدأ في المرحلة المفصلية عند الدخول في الارتباط بعد الزواج، ثمّ في مرحلة الأمومة. ثم سأحلّل كيف يمكن للأسرة النواة المهاجرة أن تمثّل هروبًا من مبدأ الأبويّة، أو تعزيزًا لهذا المبدأ، في مواجهة الحموات، باعتبارهنّ أوصياء النظام الأُسري التقليدي. وسأختم بتوضيح كيف يمكن لهؤلاء النساء، القادمات في الغالب من قرى الحُجرية نفسها، أن يبنيْن المساحات فيما بينهنّ ويصبحن أعضاء في دائرة عائلية متجدّدة، ينسجْن فيها علاقات الانتقال والأمومة المشتركة ويُعِدْن تحديد أدوارهنّ كزوجاتٍ وأمّهات، بهدف تربية الأطفال اليمنيّين بعيدًا عن اليمن، بمساعدةٍ متبادلةٍ من الإناث ومن الأسرة الممتدّة (مورو 2002).

تستند هذه الدراسة إلى تحليلٍ إثنوغرافي على فترة ستّة أشهر تقريبًا، بين عامي 2019 و2021، لعائلات من المجتمع التجاري اليمني في جيبوتي.[2] عشتُ مع أسرةٍ من المجتمع التجاري اليمني في جيبوتي حيث قمتُ بأعمال المراقبة والمشاركة. كذلك، جمعتُ قصصًا من التجارب الحياتية. وتابعت أخيرًا فترة حمل الوالدة عن بُعد منذ الإعلان عن حملها لغاية الشهر الثامن، ثم بقيتُ إلى جانبها حتى الولادة، ثمّ لمدّة أربعين يومًا. وأجريتُ استطلاعًا شملَ العشرات من النساء المتزوّجات الأخريات، معظمهنّ أمّهات أو يطمحن إلى أن يصبحن أمّهات، وبعضهنّ حوامل أو أنجبن طفلًا للتوّ، أو من الصديقات، أو الجيران، أو نساء أخريات قابلتهنّ في أماكن اللقاءات الاجتماعية بين النساء، وفي الطقوس بعد الولادة أو في حفلات الزفاف. تنتمي هؤلاء النساء إلى جيلَيْن: جيل النساء اللواتي ترعرعْن في القرى (الجدّات والحموات حاليًّا) وجيل بناتهنّ وزوجات أبنائهنّ المولودات في المدينة (العرائس أو الأمّهات الصغيرات في السن حاليًّا). التقيتُ أيضًا بنساء وعائلات من مناطق أخرى في اليمن، فضلًا عن نساء عرب مقيمات في جيبوتي، يعود أصلهنّ إلى اليمن وينتمين إلى مجتمع الأمبولي.[3] أخيرًا، قمتُ باستجواب عدد من الرجال في العائلة التي استقبلتني.

1. الزواج والهجرة وزوال الأوهام: الاكتشاف سويّاً لدور الزوجة والحياة في جيبوتي.  

الزواج واضطراباته، لحظة النزوح من الريف

في حياة المرأة اليمنيّة، لا يوجد خطوة مُنتظرة ومُخيفة أكثر من الزواج. فهو محطة عبور حقيقيّة تنقل الشابّة إلى مرحلة الرشد والارتباط، وفي أغلب الأحيان، مرحلة الأمومة. عندئذٍ، تتغيّر تسميتها من "ابنة فلان" إلى "زوجة فلان" و"أمّ فلان". ومع ذلك، لم تسلم مؤسسة الزواج من الاضطرابات التي تهزّ المجتمع اليمني. تَرافقَ النزوح الريفي، الذي بدأ في السبعينات أو الثمانينات بحسب المنطقة، مع تغيّرات عميقة في المعايير: استفادت فتيات الجيل الأول المولودات في المدينة من التعليم الابتدائي والثانوي أو حتى التعليم العالي للبعض منهنّ، وهي فرصةٌ كانت بعيدة المنال بالنسبة إلى أمّهاتهنّ اللّواتي بالكاد عرفنَ مقاعد الدراسة. اعترفت لي عائشة، التي يتراوح عمرها الآن بين 45 و50 عامًا وترعرعت في القرية، بأنّها لم تذهب هي أو شقيقاتها أو أيّ امرأة من قريتها الصغيرة إلى المدرسة. تزوّجت أختها الكبرى عندما بلغت 9 سنوات. قالت وهي تسترجعُ ذكرياتها: "تزوّجتُ في الرابعة عشرة من عمري. بعدها... حملت على الفور، ووُلد أحمد. أنجبت أحمد تزامنًا مع بلوغي 15 عامًا".

أخبرتني ابنة أختها إيمان، وهي من الجيل التالي ونشأت في عدن، أنّه بعد حصولها على شهادة البكالوريا بدرجة "جيّد جدًا"، رفض والدها على الفور تسجيلها في الجامعة. لكنَّها نجحت في مباراة الدخول وتمّ قبولها في الجامعة بالسرّ وبمساعدة عائشة، خالتها وحماتها المستقبليّة. في مواجهة الأمر الواقع، دعمها والدها بفخر حتى أنهت دراستها ووافق على انتظار تخرجّها كأستاذةٍ في التربية الإسلاميّة قبل أن يُزوّجها. أمّا عناية، المولودة في التربة، فتحدّثت عن وصول والدها إلى المدينة باعتباره مرحلة انقلابيّة كبيرة في معتقداتها التعليميّة. فأخواتها الأكبر سنًّا، المولودات في القرية، لم يذهبن إلى المدرسة بينما تلقّت عناية، وهي الثامنة بين أشقّائها، دعم والدها الذي أصرّ على أن تُواصل تعليمها حتّى المرحلة الجامعيّة ورفض كلّ من طلبَ يدها للزواج. أمّا فهيمة فتخرّجت من كليّة الأدب الإنجليزي وتزوّجت بعد أن أنهت دراستها، وكانت تبلغ من العمر حينها 24 عامًا. بالتالي، نفهم أنّ حصول الفتيات والنساء على التعليم قد أثّر تأثيرًا مباشرًا على سنّ الزواج الذي تراجعَ بشكلٍ ملحوظ في جيلٍ واحدٍ: فمعظم العرائس الشابات اللّواتي قابلتهنّ تزوّجْن في سنّ الرشد وهنّ حائزات على شهادة البكالوريا. بالإضافة إلى ذلك، أصبح زواج القاصرات محظورًا ويخضع للملاحقة القضائيّة. وإنْ حصل، يكون غير رسمي. تشرح عائشة قائلةً:

كان الزواج في سن مبكرة، مثل ما حصلَ معي، أمرًا طبيعيًا في اليمن. فتُنجب المرأة في سن الرابعة عشرة، أو حتى في سن الثانية عشرة. كان ذلك في السابق. اليوم، انتهى الأمر. في سن السابعة عشر [...] في الواقع، لا يزال البعض يتزوّجن في سنّ مبكرة، ولكنْ من دون عقد الزواج لدى القاضي. لم تعد الدولة تسمح بهذه الزيجات. لهذا السبب، توقّف الناس عن ذلك. [...] إذا قام أحد الأشخاص بتزويج ابنته القاصر، يُسجن مباشرةً في السجن المركزي! لا يستطيع القاضي إثبات عقد الزواج. في اليمن، في الوقت الحاضر، إذا أرادَ أحد الأشخاص تزويج ابنته القاصرة، لا يقصد المحكمة لإبرام عقد الزواج.

خلال أمسية بين نساءٍ في العشرينات والثلاثينات من العمر، تطرّقنا إلى موضوع الزواج. وفي حدثٍ نادرٍ بين اليمنيّات اللواتي تحدّثت إليهنّ، تزوّجت خديجة، البالغة من العمر 23 عامًا، في سنّ الخامسة على يد والدها، وهو القاضي العرفي. وكانت مُوافِقة على هذا الزواج رغم أنّها لم تلتق بخطيبها من قَبل، ولم ترَ حتّى صورته. "كُنت جاهلةً". قالت إنّ الزواج لم يكن بالنسبة لها سوى فرصة لارتداء فستان أبيض جميل، ووضع مساحيق التجميل، وتلوين يديها وقدميها بالحناء. تزوّجت أختها الصغرى للتوّ وهي في الخامسة عشرة من العمر أيضًا. أدّت الحرب إلى إعادة تغيير الاتّجاه نحو زيادة سن الزواج: فأصبح التعليم محدودًا كما كان في السابق، وبات الزواج يُعتبَر خيارًا يُطمئن العائلات لأنَّ الوضع الاقتصادي للخطيب أكثر استقرارًا بالإجمال، وأحيانًا أفضل من الوضع الاقتصادي لعائلة الشابة. ارتفعت نسبة البطالة بشكلٍ هائلٍ: الأشخاص الذين يستطيعون الزواج (يستطيعون دفع المهر - الباهظ الثمن، على الرغم من انخفاض سعره منذ بداية الأزمة – ودفع تكاليف حفل الزفاف والسكن وتلبية احتياجات الأسرة) يعملون في الخارج في غالبيتهم، وتحديدًا في جيبوتي بالنسبة إلى سكّان الحُجرية. تروي خديجة أنّها قبلت عرض خطيبها، على أمل أن تتمكّن من الذهاب معه إلى المدينة أو الخارج، وبالتالي الهروب من الزواج بمُزارع أو فلّاح ومن مشقّة الحياة. وبالرغم من أنَّها لم تكن تعرف خطيبها، إلّا أنَّه مُقرَّب من رجال عائلتها، وينتمي إلى القبيلة نفسها المنحدرة من منطقة تعزّ. بالتالي، يُعتبَر نسبيًا زواجًا تقليديًا بين الأقارب، على الرغم من أنّ الزواج التفضيلي يجمع بين أبناء العم أو الخال، والأفضل أن يكونا قريبَيْن من ناحية الأب، مثل زواج هناء أو إيمان. قال والد إيمان إنّه يفضّل أن تتزوّج من داخل العائلة لسببين رئيسيّين: ألّا يكون الزوج غريبًا بالنسبة لها أو لوالدها، وألّا يأخذها إلى مدينة أخرى أو بلد آخر لأنَّ أسرتها تعيش في تعزّ. في وقتٍ لاحقٍ، أدّى رحيل أحمد، زوج إيمان، ثم رحيل الأسرة إلى جيبوتي، إلى توتّرات كبيرة، إذ زعمت إيمان أنّ ذلك يتعارض مع بعض بنود عقد الزواج. من جهتها، ضحكت فهيمة على سذاجة خديجة. فهي لم تكن لتوافق على مثل هذا الزواج لو كانت مكانها. علاوةً على ذلك، تعترف بأنّها كذبت علينا سابقًا بشأن قصّتها الخاصّة، ولم يكن زوجها، كما زعمت، قريب صديقة خالتها، بل كانَ رفيقًا لها في صف اللّغة الإنجليزيّة، وبقيَتْ على تواصلٍ معه عبر مجموعةٍ على تطبيق واتساب. فتزوّجت فهيمة "عن حب" وليس "وفقًا للتقاليد"، وهو ما يُعتبر عارًا (عيب) في المجتمع اليمني. فالزواج بدافع الحب يؤدي إلى التشكيك في عذريّة العروس، فهي قادرة على فعل أي شيء إذا سمحت لنفسها بأن تسترشد بمشاعرها بدلًا من الحفاظ على شرفها...

الزواج، ثم الهجرة

القاسم المشترك بين قصص خديجة وهناء وفهيمة هي الهجرة الفورية بعد الزواج. بعد أيّامٍ قليلةٍ فقط من الاحتفالات، غادرن من اليمن إلى جيبوتي، حيث يعمل أزواجهنّ في التجارة. شكّلت هذه المحطّة تغييرًا جذريًا بالنسبة لهنّ: ينبغي أن يتعلّمن دورًا جديدًا، بعيدًا عن أقربائهنّ وإلى جانب شخص غريب، وكلّ ذلك في أرضٍ أجنبيّةٍ. عند الوصول، تكون الصدمة قاسية. تقول الكثيرات إنّ الصدمة سبَّبت لهنّ المرض، مثل إيمان، وكُنّ يخشين من الخروج، إلى أن حصل التكيُّف التدريجي داخل المجتمع اليمني، من خلال أشخاص من قراهنّ أو من البلدات المجاورة، أو من خلال النساء في عائلاتهنّ. بعيدًا عن المساعدة التي تُوفّرها شقيقات الزوج، وبعيدًا عن الحموات اللواتي يُعلّمن العرائس أساسيّات دورهنّ الجديد كزوجات، وجدن أنفسهنّ وحيدات مع أزواج متطلّبين يتوقّعون منهنّ دور الزوجة والأم البديلة، حيث كانت غالبية الأمّهات في اليمن. يعترف الرجال بأنَّهم تزوّجوا ليتحرّروا من القيود العمليّة أو الماليّة لإعداد وجبات الطعام وتنظيف المنزل، وهي واجبات كانت تقع على عاتقهم عندما كانوا يعيشون وسط الرجال بعيدًا عن نساء عائلاتهم. تشكو فهيمة وخديجة من مطالب زوجَيْهما اللذين لا يتردّدان في إعطاء عمل إضافي لامرأتَيْن أثقلتهما الأعباء المنزليّة، خصوصًا في ظلّ ندرة الأجهزة المنزليّة وكلفتها الباهظة، وأيضًا في ظلّ عدم توفُّر المُساعِدات المنزليّات، ولكنْ قبل كلّ شيء، الوحدة التي تعاني منها ربّات المنزل. في هذا السياق، تشكّل المساحات الخاصّة بالمرأة اليمنيّة، أثناء اجتماعات النساء في المنزل، والاحتفالات (الأعراس، والولادات، إلخ) وفي ملاعب الأطفال التي تقصدها نساء المجتمع، مساحاتٍ مريحةً، حيث تأتي الاستمراريّة الاجتماعيّة والثقافيّة، لبعض الوقت، للتغلّب على التصدّعات المؤلمة الناجمة عن الهجرة. فالعروس الشابّة والمهاجرة مثل فهيمة تجد هناك مساحةً قيّمة للتبادل. تُقدِّم النساء الأكبر سنًا معلوماتهنّ، وينصحن بمتجرٍ يبيع منتجًا يمنيًا معيّنًا غير متوفّر حتى الآن في جيبوتي، ويُقدّمن أيضًا إرشاداتهنّ لجعل الحياة اليوميّة أسهل، مثل تحضير الخبز وعجنه ثمّ خبزه مسبقًا، وإعادة تسخينه في فترة الصباح ليتناوله الزوج وقت الفطور، فيشعر وكأنّه صُنِع اليوم.

2. أن تصبح المرأة أمًّا دون أمّها: الهجرة والأبويّة المناطقيّة وتفاقم التصدُّعات

من القرية إلى المدينة اليمنيّة: تجاوز الأبويّة المناطقيّة، الولادة بين النساء، الأمومة في الأسرة

الولادات في القرية كما أخبرتني النساء اللواتي عشن هناك تشبه تلك التي وصفتها "بلاندين دستريمو" في كتابها "نساء اليمن" (دستريمو، 1990). تجري عمليّة الولادة في المنزل، جنبًا إلى جنب مع النساء الأكبر سنًّا والأكثر خبرةً، والقابلات "من واقع الخبرة" (مُولِّدات بالخبرة).

أنا: أخبرتِني أنّك أنجبت في القرية...

عائشة: نعم، في المنزل. إلى جانبي أختي الكبيرة زينب، وأم علي.

أنا: من دون والدتك؟

عائشة: كانت أمّي هنا، لكنّ الخوف تملّكها...

أنا: ألم تكن تعلم ما عليها القيام به؟

عائشة: لا، لم تعلم. يملك البعض الحكمة، أمّا البعض الآخر، فلا.

اعتبارًا من اليوم الثالث، تبدأ الزيارات من الأقارب أو نساء العائلة أو الجيران. تتعاقب الزيارات بشكلٍ شبه يومي، بين العصر والمغرب في شمال البلاد وبين المغرب والعشاء في جنوب البلاد وفي جيبوتي. تستقبل الأم الضيوف في المنزل مستلقيةً على سريرٍ مُجهَّز لهذه المناسبة. تجلس حماتها، أو الزائرة الأهمّ أو الأكبر سنًّا، على السرير بجانبها. أمّا الأخريات فيجلسن أرضًا، على وسائد. تقدّم نساء العائلة المشروبات وأحيانًا الأطعمة أيضًا. فالشابة التي أنجبت لتوّها ليست مسؤولةً عن أي مهمّةٍ منزليّة. يعتني الأقرباء بها وبمنزلها وبأطفالها... من المعتاد أن تهديها الزائرات مبلغًا من المال أو طعامًا (خبزًا طازجًا، أو فاكهة فاخرة لتغذية الأم الشابة وزوجها وأطفالها) أو ملابس للمولود.

عائشة: في اليمن، عندما وُلد أحمد، ذبحت والدتي ثورًا. [...] أنجبتُ في التاسعة صباحًا. تناولوا الغداء، ودعوا جميع الناس، وأكلوا من لحم الثور.

أنا: لكنّك لم تأكلي معهم.

عائشة: كُنت أشاهد الجميع، لكنّني بقيتُ مستلقيةً في الداخل. زارنا الناس لعدّة أيّام. بعد ثلاثة أيّام من الولادة، أقمنا حفلةً كبيرةً مع النساء. حضرَ عددٌ كبيرٌ منهنّ، وجاء الأخدام[4] ومع… "دكام، دكام" (صوت الطبول). كان الناس يرقصون، كما في حفلات الزواج، بعد إتمام الأيّام الثلاثة. يأكلون، يأتون، يبقون من الصباح لغاية المغرب. في اليوم الثالث، تستيقظ المرأة في وقت صلاة الفجر. تقول لها النساء: "هيّا، استيقظي، استيقظي، وإلّا سيجفّ الحليب". عليك أن تستيقظي في تمام الساعة الخامسة صباحًا... "ستفقدين الحليب...". بعد ذلك، عليك أن تأكلي طبق الكبد. نضع الزيت على الكبد ونُدخله في النار. وتأكلين!

أنا: رغمًا عنكِ؟ (ضحكات)

عائشة: أجل، رغمًا عنكِ! عندما تلدين، يعطونك كوبًا من الحليب الساخن، وكوبًا من العسل، وكوبًا من السمن البلدي. ويجبرونك على الشرب. كلّ صباح، يضعون لكِ العسل على رغيف خبز. وفي التاسعة أو العاشرة صباحًا، طبق الكبد، وبعدها... كل ساعة يطعمونك! بالقوة!

في اليوم السابع، يتمّ ختان الفتيان. يتم تنظيم حفلة كبيرة (السابعة) يُدعى إليها الجيران، حتّى لو كانت المولودة فتاة. في اليوم الأربعين، تتوضأ الأم الشابة. وتحتفل ببلوغها هذه المحطّة مع النساء من حولها. ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا، يمكنها النهوض والبدء بالعمل والخروج، وممارسة الجنس أيضًا. تحصل هذه الاستراحة في الأيام الأربعين الأولى بفضل التعايش مع نساء الأسرة الممتدّة، في سياق أبوي، ممّا يسمح بتقسيم العمل المنزلي ومشاركة بعض المهام، مثل إعداد الوجبات ورعاية الأطفال.

عائشة: كان يمكن لستة أو سبعة إخوة العيش معًا في منزلٍ واحدٍ في السابق، في منزلٍ واحدٍ مؤلّفٍ من غرفتين أو ثلاث غرف، ستة إخوة، خمسة إخوة يعيشون معًا. [...] عندما كنت أعيش مع والدتي، كنا... كم كان عددنا؟ إخوتي الخمسة، عاشوا في المنزل معًا. وأولادهم أيضًا! وأبناء أخواتي أيضًا، يأتون جميعًا! يأكلون معًا، يضحكون، كانوا سعداء... في أيّامنا هذه... [...] نحن الفتيات، لا نبقى في المنزل. كل امرأة تتزوّج ترحل. لكن أطفالها يعودون لاحقًا. لم أبق مع والدتي، لفترةٍ قصيرةٍ فقط. بعد زواجي رحلتُ مباشرةً إلى جيبوتي. لكن عند عودتي من جيبوتي، كُنت أجد المنزل مكتظًا!

هكذا، يمكن للمرأة القرويّة أن تحمل وتقضي فترة حملها وتُنجب وتربّي العديد من الأطفال (8 أو 9 أطفال تقريبًا لكلّ امرأة، وفقًا لمصادر إحصائيّة، في أوائل الثمانينات [البنك الدولي 2022])، إلى جانب عملها في المنزل وفي الحقول، ومن دون استخدام أي وسائل مُساعِدة لحمل الطفل. إنّ النزوح من الريف، الذي بدأ في أواخر السبعينات (ستادنيكي 2012)، تزامنًا مع بداية هجرة النساء، وضعَ حدًّا تدريجيًّا لنظام الدعم هذا داخل الأسرة. فالحرب، والأزمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي نتجت عنها، قد عزّزت الاتجاه نحو الأسرة النواة التي بدأت تتبَلْوَر بالفعل منذ الثمانينات. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّه منذ العام 2014، اختارت بعض العائلات العودة إلى القرى من أجل الفرار من القتال المحتدم في المدينة، وإعادة الاتّصال مع الحياة الريفية والأسرة الممتدّة.

من المدينة إلى جيبوتي: بعيدًا عن الأمّهات والأخوات، أمومة منفردة

في النظام الأبوي المحلّي، ربّما يبدو فصل النساء عن عائلتهنّ بعد الزواج أمرًا طبيعيًّا من الناحية الإحصائيّة. لكنَّ العديد من النساء اللواتي وُلدن في القرية قلن إنهن تزوجن من أقارب أو رجال من القرية، وبقيْن هناك. وفي نهاية المطاف، أدّى النزوح، ثم هجرة النساء إلى جانب الرجال، إلى زعزعة بنية العائلات اليمنيّة خلال جيلَيْن، مما أدّى إلى انتشار ظاهرة الأسرة النواة. أخبرتني إيمان أنها لم تر عائلتها منذ 3 سنوات. يمنعها زوجها من زيارتهم خوفًا من عدم عودتها إلى جيبوتي لاحقًا. لم تعد هدى إلى اليمن منذ 6 سنوات، ولم يتمكّن والداها من لقاء أحفادهم، وأزعجها الأمر كثيرًا. القاسم المشترك بين هاتين المرأتين هو أنّهما أنجبتا الطفل البكر في اليمن. في المدينة، تحظى النساء اليمنيّات الحوامل بخدمات الرعاية، وعلى وجه الخصوص الرعاية التي تُقدّمها النساء - وهو عاملٌ أساسي للعديد منهنّ عندما يتعلّق الأمر باختيار متابعة حملهنّ أم الامتناع عن ذلك. تتحدّث النساء في الثلاثينات من العمر والمولودات في المدينة إنهنّ أنجبن في جناح الولادة في المستشفى، أو في حالاتٍ نادرةٍ في المنزل لكن بمساعدة قابلة قانونية. تخشى الكثيرات الولادة في جيبوتي: تكشف القصص عن عدم الثقة في نظام الصحّة العامّة في جيبوتي الذي يُعتبر غير موثوق ولا يوجد بديل خاص بالنوعية المطلوبة ("هنا، سواء أكان المرء غنيًا أم فقيرًا، نُعامَل بالطريقة نفسها!")، وهو تحدٍّ ناتج عن حاجز اللّغة (اللّغة الرسميّة في المستشفيات الجيبوتيّة هي الفرنسيّة، واللّغة الواقعيّة المستخدمة هي الصوماليّة، وقلّة من الممارسين يتكلّمون اللّغة العربيّة جيّدًا). تدور قصص عدّة حول جناحَيْ الولادة الرئيسيين في جيبوتي (دار الحنان والرحمة): إنّ هذه الأماكن مزدحمة، وأحيانًا نضطرّ إلى الولادة على كرسي، أو حتى على الأرض (كما روت إيمان)، وغرف الولادة مشتركة (يتم فصل النساء بواسطة ستائر فقط)، ولتوفير الوقت، تستخدم القابلات بشكلٍ منهجيّ الممارسات الاقتحامية مثل شقّ جدار المهبل (عمليةٌ اختبرتها زينب). إضافةً إلى ذلك، فإنّ التساهُل في الفصل بين الجنسين يُزعِج المرأة اليمنيّة بشدة. لذلك، فهي تحدّ قدر الإمكان من الوقت الذي تقضيه بين جدران جناح الولادة، سواء لمتابعة الحمل أو حتى للولادة. ومن هذا المنطلق، وقّعت إيمان على إذن الخروج للعودة إلى المنزل فور الولادة، في حين أنّ الحدّ الأدنى للإقامة في الجناح هو 24 ساعة.

لكنَّ الشعور بالوحدة خلال فترات الحمل المتأخّرة وبعد الولادة هو أكثر ما يُخيف النساء. يفضّلن العودة إلى اليمن للولادة إلى جانب عائلتهنّ إذا استطعن ذلك، وهذا ما فعلته إيمان في حملها الثاني. إلّا أنّ الحرب عزّزت إغلاق الحدود اليمنيّة-الجيبوتيّة، كما أنَّ الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحّي في اليمن وارتفاع أسعار تذاكر الطيران (عندما يكون مطار عدن، المطار المتاح الوحيد في البلاد، مفتوحًا!) دفعَ عددًا متزايدًا من النساء إلى البقاء في جيبوتي. إنّه حال إيمان في حملها الأخير، وحال صديقتها نجلة، وهي امرأة يمنيّة شابّة تعيش في جيبوتي وحامل بطفلها الثاني، التي تنهّدت قائلةً: "أرغب في القفز على متن رحلة جويّة إلى اليمن للولادة هناك". والشعور بالوحدة مؤلم أكثر بالنسبة إلى الأمّهات للمرّة الأولى، اللّواتي يجب أن يتعلّمن كيف يصبحن أمّهات من دون دعم أمّهاتهن، أو جدّاتهن، أو عمّاتهن، أو خالاتهنّ، أو أخواتهنّ، أو قريباتهنّ اللواتي ينقلن لهنّ المعرفة ويدعمنهنّ في فترة ما بعد الولادة (مورو، 2002). بعد رواية ولادتها الأولى وأيّام الراحة الأربعين التي تلتها، قالت لي عائشة:

عائشة: لكنّ الأمر اختلف في جيبوتي... حتى في اليمن، في الواقع، انتهى الأمر، بالكاد يقومون بما اعتادوا عليه. في السابق، عندما تلد المرأة في اليمن؟ ياه! لا نخرج لمدّة 40 يومًا! يبقونك في الداخل! في جيبوتي الآن، كما هو الحال في اليمن أيضًا، البعض يبقونك في المنزل، وآخرون يتركونك.

أنا: في المنزل؟

عائشة: في المنزل. تمكثين 40 يومًا، لا تعملين، وتأكلين جيّدًا... هذا ما حصلَ عندما أنجبت ابني أحمد. أمّا عندما أنجبت ابني بشير، فلم يحصل شيئًا. مكثت قليلًا، لمدّة 8 أيّام، ولكن بعد ذلك لم يبقَ أحدٌ إلى جانبي، فاضطررْت إلى الخروج.

[...]

أنا: ماذا عن إيمان [زوجة ابنها]، هل ترتاح لمدّة 40 يومًا؟

عائشة: تبقى في المنزل، ولكن للعمل! اسمعي، هي تستيقظ كلّ صباح، وعليها القيام بكلّ شيء. عندما أريد أن أحضّر مريم للاستحمام أو أساعدها في ارتداء ملابسها، تقول لي: "لا، ستقوم أمّي بذلك!". الأمر مماثلٌ لأمير أيضًا. فهو لا يفهم. لكنّه الآن يريدني أن آخذه إلى المدرسة.

هناء، بعد ثلاثين عامًا، تقول الشيء نفسه: كان عليها أن تواجه وحدها حملها الأوّل، وولادتها الأولى، والعودة إلى المنزل بعد الولادة القيصريّة. وتُواجه ميارا الوضع نفسه تمامًا. لقد حاولتا بالفعل استقدام عاملة منزليّة، كما فعلت إيمان وخديجة. غير أنّ الفتيات الإثيوبيّات صغيرات السن ولا يملكن خبرة الأمّهات والأقارب في اليمن: فغالبًا لا يعرفن كيفيّة طهي الأطباق اليمنيّة التقليديّة أو كيفية صنع الخبز، ومعظمهنّ لا يتحدّثن اللّغة العربيّة. غير أنَّ تطبيقات الاتّصال عن طريق الفيديو (مثل تطبيق واتساب، ومسنجر، وIMO) تسمح ببناء "جسر يخترق الباب" (دوفوا، 2010) (إنّه تعبيرٌ إيجابي إذ أنَّ المضيق الذي يفصل جيبوتي عن اليمن يسمّى مضيق باب المندب، أي باب الأحزان). كانت إيمان تتواصل يوميًّا أثناء فترة حملها مع شقيقتيها: إحداهما في السعودية والأخرى في اليمن. ولكنّها لم تتمكّن من الحفاظ على التواصل مع جدّتها لجهة والدها، التي تعيش في القرية، حيث لا توجد تغطية لشبكة الاتّصالات. اشتكت إحدى الجارات العائدات من القرية قائلةً: "عندما نريد الاتّصال بشخصٍ في جيبوتي، نركض من نافذةٍ إلى أخرى، ومن سطحٍ إلى آخر، ومن تلّ إلى آخر، ثم نستسلم في النهاية". تُخبر جدّة إيمان الجميع أنّ حفيدتها قد نسيتها، إلّا أنَّ الناس يُدرِكون أنَّ محدوديّة التكنولوجيا تؤدّي دورًا رئيسيًا في هذا التصدُّع العائلي. كانت إيمان محظوظة بما يكفي لانضمام أمها وأختها إليها قبل شهر من ولادتها. ثمّ مكثتا لمدّة أسبوعين بعد الولادة من أجل مساعدتها في الأعمال المنزليّة اليوميّة واستقبال الضيوف، ما سمح لها بالاستراحة قليلًا. في الواقع، يُنصح بتقديم الشاي وعصير الفاكهة والمقبلات، المصنوعة في المنزل إذا أمكن، للضيوف الذين يأتون بمبادرتهم الخاصة من دون سابق إنذار. تشتكي عائشة: "في القرية، كانت النساء تأتين للمساعدة، ويجلبْن الطعام للأمّ الشابّة وأقاربها. في هذه الأيام، يأتي الضيوف لتناول الطعام فقط، ويغادرْن من دون المساعدة في التنظيف". وبما أنّ أوقات الاستقبال متأخّرة في جيبوتي، تُجبَر المضيفات على دعوة ضيوفهنّ اللواتي يحضرن في وقتٍ متأخّرٍ لتناول العشاء، وهو ما يمثل عملًا إضافيًّا يُثقل كاهل النساء الوحيدات.

حدثَ انقطاعٌ حقيقي بين الأجيال في أعقاب النزوح من الريف وتَسارُع الهجرة، بين النساء اللواتي وُلدن وترعرعن في القرية وأولئك المولودات في المدينة. يتّضح التحول الديموغرافي على مدى جيلَيْن: أمّهات إيمان وخديجة وعناية لديهنّ 7 و14 و13 ولدًا على التوالي. ولدى لطيفة 14 ولدًا أيضًا، ولدى انتصار 10 أولاد. أمّا إيمان وخديجة، فلديهما 3 أولاد، وعناية تجد صعوبة في الحمل بسبب مرض زوجها، ولدى هديل، زوجة ابن لطيفة، ولدان، وليس لدى ابتسام، ابنة انتصار، سوى ولد واحد. ما الذي يفسر هذا التراجع الملموس في معدّلات الخصوبة؟ أعربت نساء الجيل الثاني لي عن رغبتهنّ في عيش حياة مختلفة عن حياة والدتهنّ، مع عددٍ أقلّ من الأولاد. وفي حين أنّ هناء تؤكّد عدم استعدادها لحملٍ آخر، أخبرتني خديجة أنّها قرّرت ربط الأنابيب بعد الحمل الرابع والأخير. وتضيف إيمان أيضًا أنّها لا تريد أكثر من 4 أولاد. يتوافق هذا النموذج المثالي المتمثّل في 3 أو 4 أولاد، والذي يبدو أنّه مشترك، مع الواقع الإحصائي البالغ 3.7 أطفال لكلّ امرأة في العام 2018 (البنك الدولي، 2022). فهنّ يضحكن على النساء من جيلهنّ اللّواتي ينجبن الأولاد بشكلٍ متسلسل، و "لا يعرفن حتى كم يبلغ عدد أولادهنّ!". لتحديد النسل، تستخدم أغلب النساء اللّواتي قابلتهنّ وسائل منع الحمل الحديثة مثل حبوب منع الحمل أو اللولب، ويُشكِّل هذا الموضوع حيّزًا مهمًّا من النقاشات بينهنّ. في جيل أمّهاتهنّ، حصلت نسبة 7.5% فقط من النساء اليمنيّات على وسائل منع الحمل الطبّية (كرباج، 1995). اعتمدت الأخريات على ما يسمّى طريقة التقويم، أو السحب، أو الرضاعة الطبيعيّة لمدة طويلة، أو يتقبّلْن حالات الحمل المتتالية. لا يناسب ذلك بناتهنّ اللواتي تلقّين التعليم المدرسي ويطمح بعضهنّ في العثور على عملٍ مدفوع الأجر. كما أنّهنّ تزوجن في سنٍّ متأخّرة. إنّما يمكننا تفسير انخفاض عدد الأطفال لدى كلّ امرأة كنتيجة لتحويل الأسرة إلى نواة، ممّا يزعزع النظام العائلي ويجبر النساء على تربية أطفالهنّ بمفردهنّ بالإضافة إلى قيامهنّ بالأعمال المنزليّة اليوميّة المُرهِقة. وعلى الرغم من انتماء عائشة إلى جيل القرى، إلّا أنّ لها ولدَيْن فقط. سألتُها عن الموضوع.

أنا: ولكن، لماذا لم تنجبي المزيد من الأولاد؟ لماذا اكتفيتِ باثنين؟

عائشة: عندما تريدين إنجاب الكثير من الأطفال، فأنت بحاجة إلى الكثير من المال أيضًا. ولم يقبل نبيل بهذه الفكرة. لم يكن يريد أن يتربى أطفالنا على نحو سيئ [أطفال سوق، أطفال شوارع]. يقول: أريد أن يصبح أولادي صالحين ومحترمين... لا أرغب بإنجاب 10 أولاد من دون تربية صالحة [بلا فائدة].

إذا أشارت إلى الحاجة إلى المال اللازم لتوظيف مُساعِدات منزليّات أو لتسجيل الأطفال في المدارس أو الأنشطة، فهذا لأنّها وحدها في جيبوتي وعائلتها بعيدة لا تستطيع مساعدتها في تعليم أولادها. في اليمن، تقوم الوالدة بتربية أولاد إخوتها وأخواتها، فضلًا عن الجدّة وفريدة، أخت عائشة الكبرى المطلّقة. لم يكبر أولاد عائشة بالقرب من عائلتهم، ولم يتعرّفوا على جدّتهم لجهة والدتهم ولا يعرفون سوى القليل من أقاربهم. تشكو عائشة من كونها وحيدةً إلى جانب إيمان، التي أنجبت للتوّ طفلها الثالث: "عليّ أن أنجز ضعف العمل، أنا متعبة". أدّت وحدة المرأة في مواجهة تعليم أطفالها إلى تطوير دور الأمّ الذي أصبح الآن محوريًا. درست "إلسا دورلين" بناء شخصيّة الأم في فرنسا، وعلّقت:

من الناحية النظريّة، من الآن فصاعدًا، يتمحور عالم الولادة حول شخصٍ واحدٍ، "الأمّ"، التي تشغل وظيفة كانت في السابق موزّعة على عدّة نساء مختلفات. […] سمحت التغييرات في تقسيم العمل الإنجابي بإعادة تعريف السمات الفيزيولوجيّة والنفسيّة لشخصيّة "الأم"، فضلًا عن دورها وخصائصها، وكذلك شخصيّة الطفل: هو "الشمع الطري الذي يحتفظ بجميع الانطباعات المكتسبة"؛ أو "هو مختصرٌ منها". (دورلين، 2009)

على حدّ تعبير إيمان: "تُعتبَر الأمّ اليوم مسؤولةً عن كلّ شيء: "عندما لا يريد ابني أن يأكل، أو أن ينام، أو أن يذهب إلى المدرسة... أنا المُذنبة بنظر زوجي وحماتي". فالبُعد عن والدتها بسبب مبدأ الأبويّة المناطقيّة والضغط الذي يمارسه أهل الزوج في سياق الحرب والهجرة قد يفسّر حالة الاكتئاب ما بعد الولادة التي عانت منها إيمان بعد إنجابها. شعرَتْ بالذنب لأنّها فقدت ابنها الأوّل الذي وُلد قبل أوانه، ولأنّها لم تتمكن من إقامة رابط مع طفلها الثاني أو حتّى إرضاعه. أخبرتني بألم أنها عندما ولدت أمير، لم تكن قادرةً على تحمّل بكائه: "كنت أرغب في ضربه. قلت لنفسي: سيبكي لسببٍ وجيهٍ على الأقل". تحوّلت محنتها إلى استقالةٍ بعد أن أدركت أنّه على الرغم من تحصيلها الدراسي اللامع، كان عليها أن تتخلّى عن حلمها بأن تصبح معلّمة: علاقتها مع حماتها ليست جيّدة، وليس لديها من يساعدها في الاعتناء بأطفالها. قليلةٌ هي مرافق رعاية الأطفال في جيبوتي، وعلى أي حال فإنه من المُستهجَن داخل المجتمع اليمني أن يعهد المرء بأطفاله إلى أشخاص لا ينتمون إلى الأسرة الممتدّة. للحفاظ على شكل من أشكال استمراريّة الهويّة اليمنيّة، فإنّهن يعهدْن بأطفالهنّ إلى والدة الزوج في حال كانت تُقيم في جيبوتي، أو لقريناتهنّ اللواتي يؤدّين دور الأمّهات الشريكات داخل المجتمع.

3. الحفاظ على الاستمراريّة في عالمٍ متصدّع: إعادة تعريف علاقات القوة بين الأجيال وابتكار أساليب الانتقال بين الأجيال

الهروب من الحموات، أوصياء النظام التقليدي

قد تكون الهجرة بمثابة هروب من الأبويّة المناطقيّة بالنسبة للبعض. من هذا المنطلق، أدرجت خديجة بندًا في عقد زواجها ينصّ على عدم استقرار الزوجين في قرية الزوج. لذلك، كان لا بدّ من اتّخاذ إجراءات تزوير معقّدة حتى تتمكّن العروس الشابة، على الرغم من أنّها قاصر، من مغادرة البلد بدون وصي قانوني. بالنسبة إلى فهيمة، كان الرحيل أيضًا مرادفًا للصدام، حيث حاولت حماتها منعها، معتبرةً هذه الهجرة رفضًا للتقاليد أو حتى إهانة.

ومع ذلك، من المحتمل أن تهاجر النساء مع أهل الزوج، الأمر الذي قد يُمثّل مساعدة ثمينة أو مصدرًا للنزاع، كما هو الحال بالنسبة إلى إيمان التي لم تستطع تحمّل العيش مع عائشة. سيكون المنزل بالفعل صغيرًا جدًّا، مؤلّفًا من غرفتَيْ نوم فقط لـستّة أشخاص، وستتصرّف عائشة بطريقة "ديكتاتورية"، وستأخذ مكان الأمّ مع الأولاد. بعد 3 سنوات من التعايش وسط المشاكل، أقنعت إيمان زوجها أخيرًا باستئجار شقة بجوار منزل الأسرة، ونفّذ كلامها على مضض، بحجّة أن نموذج الأسرة الممتدّة تقليدي بين اليمنيّين، وهذا الحل هو هدرٌ للمال.

وفي مصدر الخلافات مع أسرة الزوج، ثمّة نظام عائلي أبوي مشابه تمامًا لموضوع دراسة "ليلى أبو لغد" لدى العائلات البدويّة في مصر (أبو لغد، 1986). تُتّهم الجدّات لجهة الأب بتشجيع زوجات أبنائهنّ باستمرار على الولادة (زيدي حبّة!)، واعتبارهنّ مجرّد أداة لإنجاب الأبناء لعائلة الأب، وتزيد أو تقلّ قدرتهنّ بحسب سرعة الحمل ونتائجه. أمّا النساء اللّواتي يجدن صعوبةً في الحمل، مثل عناية أو ميارا، فيشعرن بالذنب، على الرغم من أنّ الرجال هم سبب المشكلة في معظم الحالات. تلوم إيمان عائشة لأنّها أخذت منها أطفالها "بالقوّة"، وتجاهلت علمها. يختلف التعليم "اليمني" الذي تقدّمه إيمان لأبنائها، بالرغم من أنه يستند إلى المبادئ نفسها التي اكتسبتها من نساء من جيل عائشة: فهي ترغب في التخلص من الممارسات التقليديّة التي تعتبرها باطلة أو متخلفة أو حتى خطيرة (على سبيل المثال: ضمادة رأس الأطفال حديثي الولادة التي تهدف إلى تسطيح جبينهم، أو وضع قطعة نقود على السرة لتسريع الشفاء، أو خياطة "الصدف" على ملابس المولود، أو أكياس مليئة ببذور حبة البركة، أو طقوس أخرى للحماية من العين الحاسدة، ووضع الزيت يوميًّا على شعر الفتيات، وما إلى ذلك). تلتزم إيمان، وهي خريجة في التربية الإسلامية، بنقل معرفتها الدينيّة إلى أبنائها، ومرافقتهم يوميًّا في تعلّم القرآن والتقاليد الإسلاميّة. تُوظِّف يوميًّا شرعيتها الدينيّة ومهاراتها الفكريّة لمحاولة التعامل مع الأوامر الصادرة عن حماتها غير المتعلّمة التي تلقت تعليمًا دينيًا بدائيًا.

ومع ذلك، لا تقتصر علاقات القوة على العلاقة بين الحماة والكنة، بل تطال أيضًا العلاقات بين الجدّتين لجهة الأب والأم، حتى عندما تكونان شقيقتين، مثل عائشة وزهرة، والدة إيمان. فالأولى التي تعيش في جيبوتي إلى جانب أحفادها تشعر بالاستياء عندما تمكث إيمان نادرًا مع والدتها، رغم أنّها لم تتمكّن من زيارتها منذ 4 سنوات. لذلك، أقنعت إيمان والدتها بالمجيء إلى جيبوتي لمساعدتها بمناسبة إنجاب طفلها الثالث. يبدو أنّ عائشة تخشى أن تحلّ شقيقتها مكانها، على الرغم من أنّها تعرف القليل جدًا عن أحفادهما. فهي تُكرّر طوال الوقت: "لا تحبّ أختي الأطفال"، "أتت لتساعد ابنتها فقط"، وأخيرًا "سأرافقها أنا خلال الولادة"، وهذا ما حدث بالفعل. فكما لو أنَّ عائشة تعترف (جزئيًّا) بدور أختها كأم بينما تحرمها من دور الجدّة. إذا كانت علاقة زهرة بأحفادها متوترة، فيعود ذلك بالتأكيد إلى بُعد المسافة بينهم وليس بسبب مشاعرها تجاههم. ومع ذلك، يبدو أنّ الأخيرة تقبل هذا الوضع وتعتبر أنَّه وضع طبيعي من الناحية الاجتماعية.

قالت عائشة لمريم، البالغة من العمر 4 سنوات: لماذا لا تبقين مع جدّتك زهرة؟ هل تفضّلين جدّتك عائشة؟ لماذا؟ (تضحك)

أنا: لأنّ زهرة ليس لديها هاتف لتلعب فيه!

عائشة: لا، لا، ليس بسبب ذلك! هي تعرف كيف تقرأ قلوبنا. لا يتعلّق الأمر بالهاتف يا مورغان. فالأطفال يفهمون.

في النهاية، تُعيد عائشة نظامًا عائليًا عاشته، على الرغم من الهجرة:

عائشة: لم يتعرّف أولادي على والدتي، لقد رأوها مرّتين فقط.

أنا: كنتم في جيبوتي...

عائشة: التقت بأحمد في حفل زفافه. ولم تلتق ببشير سوى مرّة واحدة. فهي لا تعرفه.

أنا: هل كانت تعيش في القرية؟

عائشة: نعم، ولم نكن نتوجّه إلى القرية عندما نقصد اليمن. كنّا نكتفي بالتوجّه نحو تعزّ أو الحديدة، حيث تقيم عائلة نبيل [زوجها]...  

تتحدّث إيمان عن وضع أسرتها مع صديقاتها اللواتي يواجهن الصعوبات نفسها في العلاقات مع حماتهنّ. يبدو أنّ الجميع متّفق على أنّ الحموات يؤدّين دور الأوصياء على النظام التقليدي والقواعد الاجتماعية التي ينطوي عليها، ولا سيما الأبويّة. وفي مجال الهجرة، تصبح القواعد التي تحيط بجسد المرأة أكثر تقييدًا، حيث إنّ المسألة مرتبطة بالحفاظ على نقاء الهويّة اليمنيّة للجماعة، المعرّضة للخطر. وفقًا لـ "ملاثي دي ألويس"، يظل جسد المرأة الصلة الأقوى بالوطن وأرض المنشأ، وتُحيط به الحدود للحفاظ على الهوية:

يتم التعريف باللّاجئة على أنّها رمز سري ("تشفير") لكل ما تم فقدانه (مؤقّتًا) وما يجب الحفاظ عليه أيضًا للمستقبل؛ يتشابك نقاء النزوح مع نقائها الأخلاقي. (دي ألويس، 2004: 222)

تُجسّد النساء، بالتعبير المجازي، أرض الوطن؛ أرض القرية التي ترتكز عليها هوية المجموعة. يجب الحفاظ على النقاء الأصلي لأجسادهنّ، في أصالته الرمزية. إذا أكّدت نساء الأجيال الأولى التصرف بهذه الطريقة من أجل الحفاظ على الاستمرارية بين الأجيال، فإنّ نساء الجيل الثاني يعتقدن أنّهن قادرات على القيام بأدوارهنّ كزوجاتٍ وأمّهاتٍ بطريقةٍ مختلفة. تنهي إيمان حديثها بإعطائي نصيحةً: "إذا استمرّيت في المواجهة طوال الوقت، ينتهي بك الأمر إلى إرهاق نفسك. هذا ما قمت به في البداية، لكنّه أسوأ من أي شيء آخر. اليوم، لم أعد أُواجِه حماتي وزوجي. أقول "نعم"، ثم أقوم بما في وسعي أو أفعل ما أريد".

الأمّهات الشريكات، الشخصيات المحوريّة في زواج اليمنيّات من الحُجرية في جيبوتي

تنطبق النصيحة التي قدمتها إيمان أعلاه بشكلٍ خاص على الخروج لرؤية الصديقات، الأمر الذي يعتبره كلّ من زوجها وعائشة وقتًا ضائعًا. من أجل الخروج بدون حصول مواجهة مع أحمد، حتّى لا تحلّ عليها "لعنة الملائكة" على حد قولها، تستغل غياب زوجها لترتدي ملابسها وتُجهِّز أولادها بسرعة، ثم تنزل الدرج بهدوء، وتحرص ألّا تراها عائشة من منزلها.

شبكات التواصل الاجتماعي[5] هي مورد مهمّ للنساء اللواتي قابلتهنّ. وهي مبنيّة على نموذج شبكات التواصل القرويّة، على الرغم من أنّ معظم أعضاء هذه الشبكات نشأن في المدينة، في منطقة التربة، وتعزّ وحتى عدن أو إبّ أو صنعاء في حالات نادرة. ومع ذلك، فإنهنّ يشتركن بشكل رئيسي في كونهنّ ينتمين إلى قبائل الحُجرية نفسها، بسبب منطق الهجرة المتسلسلة.[6] وهكذا، بعد أن أنجبت، تمكّنت ميارا من الاستفادة من الغرفة التي أخلتها إيمان، حيث كان جناح الولادة مزدحمًا وعشرات النساء في انتظار إخلاء سرير. بقيت عائشة بجوارها، وحلّت محل عائلتها التي بقيت في اليمن. ثم تقوم مجموعة من النساء بزيارة الأم الجديدة لتقديم النصائح لها حول الرضاعة الطبيعية والنوم والملابس... تدافع كل واحدة عن وجهة نظرها مع الأم الشابة. أمّا الجيران، ولا سيما اللواتي يعشن على طول الشارع 13، في الأحياء التي يسكنها تقليديًا أفراد المجتمع التجاري اليمني، فيساعدن بعضهنّ البعض من خلال تكليف بعضهنّ البعض بالاعتناء بأطفالهنّ أثناء ذهابهنّ للتسوق. تُحبّ هؤلاء النساء صنع الخبز، والطهي، فيما يلعب الأطفال معًا، كما كان ليحصل مع أقاربهنّ في اليمن. أما نساء الجيل الأول، مثل عائشة أو لطيفة، فلا يفهمن هذه الأشكال الجديدة من التواصل الاجتماعي، التي تتعدّى في نظرهن على الكثير من قواعد السلوك التي اتّبعنها في اليمن، حيث كان يُنصح بالمجيء من دون أطفال عند زيارة النساء من خارج الأسرة، وعدم المكوث لوقت طويل. اتّسعت الهجرة منذ ذلك الحين وجعلت حدود دائرة الأسرة سهلة الاختراق، ولم يعد بإمكان النساء المعزولات الاعتماد على أفراد أسرتهنّ المباشرة لرعاية الأطفال عند خروجهنّ. في بعض الحالات، يستغلّ الأب هذا الطابع الضيّق للأسرة ليقوم بدور أكبر في تربية أبنائه: مثلًا، زوج خديجة لا يتردّد في رعاية أولاده عندما ترغب زوجته في زيارة صديقاتها. تميل النساء في المجتمع أيضًا إلى مساعدة بعضهن البعض في تعليم أبنائهنّ، ممّا يتعارض جزئيًّا مع إعادة تعريف دور الأم ضمن النظام الجديد للتقسيم الجنسي للعمل، أي نظام الأسرة النواة. يتّخذن دور الأمّ الشريكة (أو "الأم المُساعِدة" وفقًا لـ "ماري روز مورو" [مورو، 2002]) الذي يتجلّى قبل كلّ شيء في طبيعة العلاقة التي تربطهنّ بأبناء أقاربهنّ. في الواقع، ليست هذه العلاقة ثلاثيّة الأطراف (الأمّ الشريكة – الأمّ - الطفل)، وكلّ امرأة مدعوّةٌ للتعامل مباشرةً ومن دون وسيط من الأمّهات، مع الأطفال جميعهم. لذلك، ليس من غير المألوف رؤية أم تلاحظ أخطاء أبنائها، وتفضّل أن تتدخّل امرأة أخرى في الموضوع، سواء أكانت مضيفة لها أم لا. طلبت منّي الأمّهات عدّة مرّات أن أعاقب أطفالهنّ أو حتى أن أُصحّح أفعالهم عندما لم يصغوا إليّ. علاوةً على ذلك، لا تتردّد النساء غالبًا في تكليف بعضهنّ البعض برعاية أطفالهنّ بهدف الخروج أو التسوق، وذلك بشكلٍ عفويّ غالبًا ومن دون التشاور مع بعضهنّ البعض مسبقًا.

الخاتمة

وعليه، تؤدي الحرب في اليمن، كما في أي مكان آخر، إلى إعادة تشكيل هيكليّة الأسرة بشكلٍ عميق. إنَّ تشتّت العائلات، الذي بدأ بالفعل من خلال التغيرات الاجتماعيّة مثل النزوح من الريف، قد تسارعَ اليوم جرّاء تطبيع هجرة النساء والأطفال. وفي مواجهة طابع الأسرة النواة في الاغتراب، ينبغي على المرأة الآن أن تتعلّم وأن تتولّى وحدها الأدوار الصعبة المفروضة عليها كونها الزوجة ثم الأم. لكنَّها في المقابل تستفيد أيضًا من الهجرة للهروب من النظام الأبويّ المناطقي ومن انتقال ما يُسمى بالمعايير التقليديّة، الأمر الذي يسمح لها بتطبيق معايير مختلفة عن تلك التي تتبنّاها نساء جيل القرية.

لهذه الغاية، تستفيد المرأة من المراجع اليمنيّة التقليديّة والمراجع الحديثة أو الغربيّة، فضلًا عن المراجع الإسلاميّة، التي تتكشّف لها من خلال علمها، وبالتالي تصبح جزءًا من حداثةٍ بديلة. تمامًا كالنساء المصريات اللواتي اجتمعَتْ بهنّ "صبا محمود"، فإنّهن يُبرهنّ عن قدرتهنّ على التصرف كنساء وزوجات وأمّهات من دون مقاومة الأعراف بشكلٍ مباشر (محمود، 2005). من خلال خلق فراغات فيما بينهنّ، ومساحات من المساعدة المتبادلة، والأمومة المشتركة والانتقال، وعلى الرغم من التصدّعات، تمكّنت النساء من الحفاظ على استمراريّة مَرِنة بين الأجيال، على غرار ما تصوّرته "فرانسواز كولين":

لطالما كان النقل عبر النساء، وبين النساء، قائمًا على نمط التكرار بدلًا من الابتكار على ما يبدو: نقل الحياة، ونقل كل ما يُحيط بالحياة ويُحافظ عليها. [...] لم يُنظر إلى النساء على أنّهن فاعلات اجتماعيّات وثقافيّات، بل كان يُنظر إليهنّ على أنّهن أوصياء على عالمٍ ليس لهنّ أيّ دور في تشكيله وتغييره. (كولين، 1993)

المراجع

Abu-Lughod, Lila. 1986. Veiled sentiments. Honor and poetry in a Bedouin society, 317. Berkeley, LA, Londres : University of California Press.

Alwis (De), Malathi. 2004. “The "Purity" of Displacement and the Reterritorialization of longing : Muslim IDPs in Northwestern Sri Lanka.” Dans GILES Wenona, HYNDMAN Jennifer (dir.). Sites of Violence : Gender and Conflict Zones, 373. London, Berkeley : University of California Press.

Barth, Fredrik. 1995. Les groupes ethniques et leurs frontières, 270. Dans Poutignat, Philippe, Streiff-Fenart, Jocelyne. Théories de l’ethnicité. Paris : PUF.

Collin, Françoise. 1993. «Histoire et mémoire ou la marque et la trace.» 6 (1) : 13–24 Recherches féministes.

Courbage, Youssef. 1995. «Baisse de la fécondité dans la Péninsule arabique.» 415-445. Dans Population, 50e année, n° 2. Disponible sur : https://www.persee.fr/docAsPDF/pop_0032-4663_1995_num_50_2_5948.pdf

Destremau, Blandine. 1990. Femmes du Yémen. 302. Paris : Peuples du monde.

Doraï, Mohammed Kamel. 2008. «Du brouillage des catégories de réfugié et de demandeur d’asile à partir d’exemples moyen-orientaux.» Dans Cambrézy, Laacher, Lassailly-Jacob, Legoux (dir.) L’asile au Sud. 89-109. Paris : La Dispute.

Dorlin, Elsa. 2009. La matrice de la race : Généalogie sexuelle et coloniale de la Nation française, 308. Paris : La Découverte

Dufoix, Stéphane. 2010. «Un pont par-dessus la porte. Extraterritorialisation et transétatisation des identifications nationales.» Dans Dufoix, Gueramissoff, De Tinguy (dir.). Loin des yeux près du cœur. Les États et leurs expatriés, 15-57. Paris : Presses de Sciences Po.

Latte-Abdallah, Stéphanie. 2006. Femmes réfugiées palestiniennes. Paris : 244. Presses universitaires de France.

MacDonald, John S., Leatrice D. 1964. “Chain Migration, Ethnic Neighborhood Formation and Social Networks.”  Vol. 42, 82–97. The Milbank Memorial Fund Quarterly,

Mahmood, Saba. 2005. Politics of Piety. The Islamic Revival and the Feminist Subject, 233. Princeton University Press.

Moro, Marie Rose. 2002. Enfants d’ici venus d’ailleurs. Naître Et Grandir En France, 192. Paris : La Découverte.

Pernot, Morgann Barbara. 2020. Être yéménite, le rester. Les territoires de l’entre-soi féminin chez les Yéménites à Djibouti : jeu de frontières et exercice de distinction, 156. Mémoire de sociologie politique, sous la direction de Stéphane Lacroix. Paris : Sciences Po - Inalco.

Rouaud, Alain. 1997 «Pour une histoire des Arabes de Djibouti, 1896-1977.» 319-48. Cahiers d’Études Africaines, Vol. 37, Cahier 146. Paris : EHESS.

Sayad, Abdelmalek. 1992. L’Immigration, ou les paradoxes de l’altérité, 331. Louvain-la-Neuve : De Boeck Université.

Stadnicki, Roman. 2012 «Le Yémen vers la transition urbaine.», 201-24.CEFAS. Yémen. Le tournant révolutionnaire, Paris : Karthala.


[1] في العام 2014، فشلت العمليّة السياسيّة الانتقاليّة لحكومة "عبد ربه منصور هادي" التي بدأت في أعقاب ثورة 2011 ومع رحيل الرئيس "علي عبد الله صالح"، بعد حكمٍ دام 35 عامًا. تمكّن الحوثيّون، وهي جماعةٌ متمرّدةٌ من شمال البلاد، من الاستيلاء على العاصمة صنعاء. في الأشهر التالية، انضمّ إليهم الرئيس المخلوع، خصمهم التاريخي. في شهر آذار/مارس 2015، وبناءً على طلب الرئيس هادي المنفي في المملكة العربيّة السعوديّة، شنّ تحالف الدول العربيّة السنيّة، بقيادة المملكة العربيّة السعوديّة، أوّل عمليّة عسكريّة للتصدّي للتهديد الذي يشكّله الحوثيّون الذين يزعمون أنّهم ينتمون إلى الطائفة الشيعيّة وتدعمهم إيران. منذ ذلك الحين، اليمن في حالة حرب. في الشمال، تمكّن التحالف من صدّ قوّات المتمرّدين حتّى صنعاء، بعد أن احتلّت معظم المدن الرئيسية في البلاد بحلول العام 2015، وصولًا إلى عدن، العاصمة السابقة لجنوب اليمن، مرورًا بالحديدة وتعزّ. في عدن، تطالب الجماعات الانفصاليّة بالسيطرة على المدينة وضواحيها. بالنسبة إلى المدنيّين، عواقب الحرب وخيمة: فالجزء الأكثر اكتظاظًا في البلاد محاصرٌ، والقتال على الأرض دائمٌ، والمناطق الخاضعة لسيطرة المتمرّدين دمّرها القصف السعودي. ارتفعت أسعار السلع الأساسيّة وازدادت نسبة البطالة بشكلٍ كبير، وتدهورت معظم البنى التحتيّة الغذائيّة والصحيّة فيما يكافح الملايين من الناس يوميًا للحصول على الغذاء، ومياه الشرب، والرعاية الصحيّة.

[2] جرى تمويل هذه الأبحاث جزئيًّا من قِبل المركز الفرنسي للدراسات الإثيوبيّة IFRE 23 - القرن الأفريقي، بدعمٍ من معهد الأبحاث المستقلّ حول القرن الأفريقي (IRICA).

[3] حيّ يقع في ضواحي جيبوتي ويسكنه تاريخيًّا مهاجرون يمنيّون من الساحل الغربي (تهامة)، تحديدًا من مدينتي المخا وذباب، حيث أتوا للعمل كمزارعين أو بحّارة أو عمّال بناء في ظلّ الاستعمار.

[4] أفرادُ مجموعةٍ اجتماعيّةٍ مهمّشة بسبب أصولهم العرقيّة الأفريقيّة وحالة العبوديّة السابقة المفترضة، ويتم تكليفهم بمهام معيّنة، مثل ختان الصبيان، والترفيه الموسيقي في حفلات الزفاف والاحتفالات الأخرى...

[5] التواصل الاجتماعي مع الأقران، أي النساء اليمنيات من المجتمع التجاري من منطقة تعزّ في هذا السياق.

[6] مكدونالد، 1964.

About the author(s):
Morgann Barbara Pernot :

Morgann Barbara Pernot est doctorante contractuelle en sociologie à l’Iris (EHESS), bénéficiant d’une allocation de l’Institut Convergences Migration. Elle étudie, sous la direction de Blandine Destremau (EHESS – Iris), les pratiques et représentations de la maternité qui, chez les femmes yéménites à Djibouti, cristallisent la volonté de continuité générationnelle et temporelle en contexte de rupture migratoire et spatiale. Elle est doctorante associée au CFEE, affiliée à l’IC Migration et, dans ce cadre, des projets CollabMigr et DivDroit_FaMi (IC Migrations), qui visent à la réalisation de travaux collaboratifs autour des enjeux de migration au sein des familles.