محاولة في قراءة الذكورة وإعادة تعريفها

Publishing Date: 
October, 2014
Dossier: 
Gender Equity Network
Author(s): Bassem Chit
Abstract: 

يعيد مركز دعم لبنان نشر هذا المقال الذي كتبه باسم شيت  لـ "كفى" عنف واستغلال، تكريماً لمديره التنفيذي الذي توفي في الأول من تشرين الأول/ أوكتوبر 2014. هذا المقال تحت عنوان "محاولة في قراءة الذكورة وإعادة تعريفها" كتب باللغة العربية، ويناقش مفاهيم النظام الأبوي والذكورة وتحقيق المساواة بين الجنسين في مجتمعاتنا وفي دوائر الناشطين/ات.

 

Keywords: Gender Equity, Masculinity & Patriarchy, Engaging Men

To cite this paper: Bassem Chit,"محاولة في قراءة الذكورة وإعادة تعريفها", Civil Society Knowledge Centre, Lebanon Support, 2014-10-01 00:00:00. doi: 10.28943/CSKC.002.20004

[ONLINE]: https://civilsociety-centre.org/ar/paper/محاولة-في-قراءة-الذكورة-وإعادة-تعريفها
Cited by: 1
Embed this content: 
Copy and paste this code to your website.
Full text: 
Full text

محاولة في قراءة الذكورة وإعادة تعريفها

 

ما هي الذكورة وما هي الذكورية؟

السؤال الأوّل الذي طرحته لنفسي عند بداية كتابة هذا المقال هو: "ماهي الذكورة؟ وكيف نصنّف سلوكيات أو أفعال معيّنة كذكورية او أنثوية؟".

المشكلة الأولى التي واجهتني في الإجابة عن هذا السؤال هي أنّ معظم الكلام والتعابير والتعريفات المستخدمة في تعريف هذا النمط السلوكي أو ذاك، مرتبطة بشكل وثيق بإرث تاريخي وسياسي واقتصادي واجتماعي معيّن، وأنه ليس هناك نمط واحد أو محدّد وعابر للتاريخ للذكورة أو الأنوثة. فكلاهما وغيرهما تكوينات اجتماعية، أي أنها ليست مرتبطة بيولوجيًا بالأشخاص أنفسهم، بل هي هويات اجتماعية مكتسَبة ومتغيّرة حسب تغيّر الظروف الاجتماعية والسياسة والاقتصادية ومعها تغيّر الأفكار السائدة في المجتمع.

يمكننا أن نرى عبر التاريخ كيف تغيّرت هذه المفاهيم وتبدلّت. ففي جبل لبنان مثلاً، في القرن التاسع عشر، كان أحد معايير الذكورة مرتكزًا حول ملكية الأرض، حيث رفض معظم الرجال العمل في المصانع التي بدأت تنشأ حينها في جبل لبنان. هذا المعيار "الذكوري" تبدّل فيما بعد، تحديدًا في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين حيث ارتبط أحد معايير الذكورة بالاستقرار الوظيفي أو القدرة على اكتساب الثروة واكتساب المكانة الاجتماعية. هذا التحوّل في المعايير لا يقطع بالضرورة ونهائيًا النمط التقليدي القائم قبل حدوثه، لكنّ الهوية الجديدة تكتسب مساحة أوسع من الثقافة العامة مقارنةً مع التقاليد القديمة التي تبدأ بالاندثار.

إذاً "الذكورة"، كهوية اجتماعية، هي نتاج اجتماعي. بمعنى أنها تعكس التناقضات والاختلالات القائمة في المجتمع، كما أنها تعكس علاقات القوة التي تحكمه. أي أنها ليست انعكاسًا طبيعيًا أو بريئًا للواقع البيولوجي والإنساني المجرّد، بل هي تركيبة إيدولوجية تهدف إلى خدمة علاقات القوة الموجودة أصلاً.

من هنا نرى أنّ طبيعتنا البيولوجية ليست هي ما يحدّد سلوكنا الاجتماعي والسياسي (وإن كانت تؤثر في جزئياته)،
بل نحن كأفراد واعين لوجودنا وخياراتنا من يحدّد هذا السلوك سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا. أي أنّ سلوكياتنا والهويات الاجتماعية والجندرية التي نكتسبها أو ننتسب إليها، هي في الواقع انعكاس للخيارات السياسية والإيدولوجية التي ننتمي اليها أو نمتثل بها.

وهنا صلب المسألة. فلا شيء في تكويننا الطبيعي والبيولوجي يعطي للذكر أو للأنثى امتيازًا على الآخر. فنحن مختلفون ومختلفات في جزئيات تكويننا الإنساني، لكنّنا متساوون ومتساويات في وعينا لأنفسنا كبشر وكأفراد في مجتمع إنساني أوسع. وندرك أيضًا أنّ الامتيازات التي يتمتّع بها الرجل على المرأة اليوم، ضمن القانون والدين والمساحة العامة وغيرها من الميادين، هي امتيازات مفبركة ضمن سياق تطوّر تاريخي معيّن، أي أنها نتاج سياسي يهدف إلى تأمين انضباط اجتماعي واقتصادي وسياسي معيّن لخدمة علاقات القوة الطبقية والبطريركية القائمة أصلاً في المجتمع.

 

الهوية الذكورية السائدة في مجتمعنا

إنّ الهوية الذكورية السائدة اليوم في المجتمع تعمد على تصوير الرجل على أنّه المعيل الوحيد، مثلاً، والمرأة على أنّها المربية والمؤتمنة على الاهتمام بالعائلة والمنزل. لكن كما هو شأن كلّ هوية مُفبركة وغير طبيعية، فإنّ هذه الهوية الذكورية تُواجَه بمقاومة من قبل معظم النساء كونها تتناقض موضوعيًا مع الواقع الفعلي للمجتمع. لذا نرى اليوم ازديادًا واضحًا لدور النساء في القوى العاملة مثلاً، بالإضافة إلى ازدياد ملحوظ وواسع لدور النساء ونشاطهنّ السياسي في المساحة العامة.

ومن خلال تجربتي كناشط سياسي على مدى أكثر من أربعة عشر عامًا، رأيت أنّ النساء كنّ دائمًا حاضرات داخل الحملات والعمل السياسي وأكثر التزامًا وجديةً في العمل من الرجال. كنّ أكثر إصرارًا ونزاهةً في التداول والعمل السياسي اليومي من الرجال. وكما في عدد كبير من التحركات، شكلّن غالبية الأعضاء في اللجان التي تقوم بالعمل اللوجستي والتنظيمي والسياسي لهذه التحرّكات. لا يقتصر الأمر على تجربتي الخاصة، بل يمتدّ ليطال الدور الأساسي والمركزي الذي لعبته ولا تزال تلعبه النساء في نضالات الشعوب العربية بوجه الديكتاتورية من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية: من نضالات النساء العاملات في مصانع النسيج في مصر، إلى المظاهرات العارمة بالنساء في اليمن، ومقاومة النساء السعوديات للقمع والاضطهاد، وصولاً إلى نضالات النساء في سوريا وتونس ولبنان وغيرها من البلدان. إنّ هذا الواقع، بالنسبة إليّ، هو من الدلائل الكبرى والأهم على زيف الهوية الذكورية السائدة التي تروّج لفكرة أنّ الرجل هو القائد والمناضل الطبيعي وأنّ المرأة هي التابعة فقط.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الثقافة المهيمنة فعليًا تسعى دومًا إلى تقويض مشاركة المرأة في العمل السياسي. فمثلاً، قام النظام المصري خلال الثورة بنسب مسألة مشاركة المرأة في العمل السياسي  إلى شكل من أشكال الإخلال بالآداب، فاتّهم المعتصمين والمعتصمات بأنّهم/نّ يخلّون بالآداب العامة وأنّ ميدان التحرير أصبح مساحة لإقامة العلاقات الجنسية، فتفاقم الوضع حتّى أقدمت القوى العسكرية على فرض فحوص العذرية على النساء المشاركات في المظاهرات.

هذه الحادثة تتكرّر بأشكال ونسب مختلفة في معظم الدول العربية وتندرج، من جهة، في سياق محاولة النظام تقويض حركة الجماهير على الأرض، ومن جهة أخرى، محاولته خلق انقسام بين الرجال والنساء المنتفضين والمنتفضات، من خلال إغواء الرجل بالامتيازات البطريركية.

إنّ التهديد الذي يفرضه دخول النساء إلى المساحة السياسية والمساحة العامة لا يقتصر فقط على تقويض الهوية الذكورية السائدة، بل يؤدّي أيضًا إلى تقويض والتشكيك في علاقات القوة التي تتمتع بها الطبقات الحاكمة نفسها والإيدولوجية التي تعتمدها من أجل تقويض حركة الجماهير. فمشاركة النساء في العمل السياسي سوف تهدّد القيم الدينية البطريركية، وكذلك البنية البطريركية للسلطة السياسية والاقتصادية، فتؤدي إلى تحوّل في بنية القيادة السياسية للحركات الاجتماعية والسياسية الشعبية. أي أنها عمليًا تؤدّي إلى تثوير المجتمع وتجذّر نضالات الجماهير بوجه التفرقة والطغيان والقمع والاضطهاد والاستغلال.

انطلاقاً من هنا، فإنّ الخرافات والادعاءات التي  تسعى قوى أمر الواقع من خلالها إلى فرض سلّم امتيازات جندرية وإعطاء الرجل امتيازات على المرأة تبرهن أنّها ليست سوى خرافات وادعاءات بعيدة كلّ البعد عن واقع الأمور. فإن كانت النساء يدفعن بحياتهنّ ثمن النضال من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية، فلماذا لا يحق لهنّ التمتع بهذه الحرية والديمقراطية والعدالة؟

لذا، إنّ النضال المشترك ما بين الرجال والنساء هو المسار الذي يجب على الرجل من خلاله أن يعيد تعريف هويته الاجتماعية وبناءها، بحيث تكون هوية تحترم النساء كأفراد متساويات معه في الحقوق، وهوية تنطلق من أنّ مصلحة مجتمعاتنا ومصلحة المجتمع الإنساني بمجمله تعتمد على تحقيق المساواة الكاملة كحقّ إنساني بديهي، وليس كامتياز يعطيه الرجل للمرأة! وفقط من خلال عملية إعادة تعريف الهوية الاجتماعية هذه، نستطيع أن نقول إننا حقًا نخطو باتجاه بناء مجتمع عادل  وحرّ وديمقراطي، أي مجتمع إنساني حقيقي. لكنّ عملية إعادة التعريف هذه لا تقتصر فقط على احترام الرجال كأفراد لحقوق النساء ولمشاركتهنّ في العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لكن على الرجال أيضًا العمل على إعادة تعريف المساحة العامة والمساحة السياسية حتى تتلاءم المساحتان مع المنطلقات الحقوقية ومفاهيم المساواة.

فهنا لا يحق لنا كناشطين رجال مثلاً أن نكتفي بكوننا مناصرين لحقوق النساء، بل علينا أن نقرن هذه القناعة بالعمل على أن تكون هذه الحقوق أساسية ومركزية في عملنا النضالي اليومي وأن تكون مساحات التعبير السياسي هي مساحات مشتركة تحترم مشاركة المرأة والمساواة. هذا يعني أنّ على الرجال إعادة بناء سلوكياتهم الشخصية والسياسية على هذه الأسس. أي أنه علينا، كرجال، أن نهذّب أنفسنا ونشارك في مواجهة الثقافة الذكورية المهيمنة، وليس أن نطلب من النساء الامتثال لسلوكياتنا الذكورية القائمة من أجل أن يحصلن على اعتراف منّا بأنهنّ مناضلات أو ناشطات. فهذا الدور هنّ اكتسبنه ولهنّ وحدهنّ الحق في تعريف شكل مشاركتهنّ فيه.

وهذا شرك نقع فيه كثيراً، إذ إنّ المنطلقات التي نرتكز عليها عادةً لتعريف المشاركة السياسية والنضالية غالبًا ما تتمثّل بأفكار مبنية على أسس بطريركية مستمدّة من علاقات القوة البطريركية القائمة. من هنا، إنّ المساحات السياسية القائمة، وحتى الأكثر تقدمية بينها، لا تزال في ديناميّاتها وآليّات عملها تفاضل مشاركة الرجال على النساء. لذا، ولمواجهة هذا الأمر، ينبغي علينا كناشطين ومناضلين رجال التراجع بعض الشيء وإتاحة المجال جديًا وفعليًا لإعادة بناء وبلورة هذه الديناميّات وهذه الآليّات بمشاركة النساء أنفسهنّ، وذلك من أجل أن تعكس هذه المساحات فعليًا وواقعيًا قيم المساواة التي ننادي بها.

إنّ عملية إعادة تعريف الهويّة تندرج على مستويات عدّة، من اللغة التي نستعملها، والتوصيفات والصور النمطية الذكورية التي تُستعمل لتوصيف النساء، والسلوكيات التي نعتمدها مع رفيقاتنا في النضال وصديقاتنا وأخواتنا وأمّهاتنا وغيرهنّ من النساء. لذلك علينا كناشطين رجال (وحتى من يعتبر نفسه أكثر تقدمية) أن نعي جيدًا أنّ مسؤوليتنا مضاعفة في إنهاء الاضطهاد والاستغلال اللذين تتعرّض لهما النساء في مجتمعاتنا، لأنّ الاضطهاد والاستغلال والقمع غالبًا ما تُمارس باسم الذكورة أو باسم الرجل.

من هنا، إنّ تحقيق المساواة يبدأ عمليًا بسحب قدرة الثقافة والقوى المهيمنة في المجتمع على استخدام الرجال (بشكل واعٍ أو غير واعٍ) من أجل نشر العنف والاضطهاد والقمع ضد المرأة. بمعنى آخر، علينا أن نقوم، وبشكل واعٍ، برفض الترويج لأيّ شكل من أشكال ثقافة الاضطهاد والقمع والعنف والتمييز هذه. فمصلحتنا كرجال ونساء هي أن نعيش في مجتمع إنساني عادل وخالٍ من جميع أشكال العنف الاجتماعي والجندري. فبداية التاريخ الفعلي للبشرية ينطلق أولاً من المساواة الكاملة.

 

(نشر من قبل منظمة كفى عنف واستغلال-KAFA على هذا الرابط)

About the author(s):
Bassem Chit:

Bassem Chit was the executive director of the Centre for Social Sciences Reasearch and Action, formarly known as Lebanon Support.